الذين قلّلوا من شأن تراث حسن عبد الله الشعري (أربع مجموعات في عمر شارف على الثمانين)، حسبوا أنّ الأمر يرجع إلى زهد الشاعر اللبناني - الراحل مؤخراً - بالكتابة، وسهوه عن التأليف. رأى البعض في ذلك تواضعاً أو خفراً أو تكاسلاً. ليس هذا ما يحسبه عارفوه، ومُساكنوه في بعض أيامه. أولئك يعرفون بالتأكيد أنّ حسن عبد الله (1943 - 2022) كان شاعرَ كلّ وقتٍ، وبخاصّة الوقت الذي لا ينظم فيه، أو يبدو بعيداً عن الشعر.
أذكر أنّه كان يجلس للشعر ساعات، تكاد تكون يومية. كان ذلك في العصاري، هو الذي ينهض من نومه فيها، فقد كان ينفق الليل كلّه في سهر لا أظنّ أنّه بعيدٌ عن الشعر. كنّا نتركه لموعده مع الشعر، وللوحي الذي لا يواتيه دائماً. ذلك كلّه لم يكن ينجح. لم يتعب حسن من انتظار الشعر، ولم يكن لينكث موعده معه. أحسب أنّه كان يرى الأمر يستحقّ كلّ هذا التفرّغ، وذلك الصبر. أحسب أنّه كان كلّ مرّة يربي شعراً آخر، ينتظر أن يُسفر الانتظار والوقت عنه. لعلّه كان ينتظر أن ينضج هو لهذا الحدث، الذي كان بحد ذاته قطيعة كبرى. كان في الغالب يريد أن يكون مستعدّاً لذلك، ويربّي نفسه ليكونه.
لا أعرف شخصاً مسكوناً بالشعر بقدر ما كان حسن، شخصاً لا يني يبحث عن الشعر في نفسه، وعن الشاعر فيه. كان يحفظ الشعر العربي حفظَه لحياته، ويتذكّره كما يتذكّر يومياته. لا بدّ أنّه كان يرى الشعر من أعلى، يراه فوق نفسه وفوق نماذجه. حين يعثر على شاعر، كما كان أمره مع المتنبي، لم يكن ليجرؤ على أن يدانيه. ما كان ليعود إليه، إلّا كما يعود إلى أقداس ومزارات. كان الشعر، بالنسبة له، أمراً يحاذي المستحيل، أمراً فوق الإمكان، وفوق الطبيعة، وفوق القصد. كان بالتأكيد يراه فوق التعريف.
كان يرى الشعر من أعلى، يراه فوق نفسه وفوق نماذجه
ليس لحسن نظرية في الشعر، وقلّما كان ناقداً، فالشعر، بالنسبة له، شيءٌ للترميم وللانبهار وللعبادة، إذا جاز القول. لم تكن لحسن نظرية في الشعر، إلّا أنه كانت له معاناته للشعر. كان افتتانه بالشعر يولّد، في ذات نفسه، بواعث وقياسات وتطلّبات ووجهات، هي في الغالب مستحضرة أو متلمّحة في عمله الشعري نفسه. لم تكن لديه نظرية في الشعر إلّا تلك التي نتلمّحها في قصائده نفسها. لم يكن له في ذلك إلّا ما نستشفّه من قصيدة عصماء بحقّ، كقصيدته "صيدا" في مجموعته الأولى "أذكر أنني أحببت" (1978):
"حفروا في الأرض
وجدوا امرأةً تزني
ملكاً ينفض عن خنجره الدم
حفروا في الأرض
وجدوا فخّاراً
أفكاراً
لحنا جوفياً منسرباً من أعماق البحر
حفروا في الأرض
وجدوا رجلاً يحفر في الأرض".
القصيدة، كما هي المجموعة، شعر عامر بالتفكير بالشعر، كما هو عامر بالعمل على الشعر، على نحو يجعله بحق ما بعد اللغة وفي نهايتها، على نحو يعالق بين الفكر والإيقاع والاستذكار والغناء والترداد والسرد. في ذلك كلّه يكون الشعر نفسه ولا يكونه إلّا على حدوده ونهاياته. لعلّ المجموعة كلّها هي هذا النمط الذي يكاد فيه الشعر أن يكون قابلاً لكلّ كلام على قدرته أن يكون نفسه أكثر وأكثر، نفسه وغيره، نفسه وما بعده.
حين نقرأ "أذكر أنني أحببت" نجد بحقّ شعراً آخر بكلّ معنى الكلمة، بل نجد فيه، هو الذي صدر في معترك البحث عن قصيدة جديدة، معتركَ ما دُعي بالحداثة الشعرية. نجد فيه قصيدة غير تلك التي كانت تصدر، يومذاك، عن روّاد التجديد، غيرها، وبغير مطالبها، وغير مزاعمها، وغير أساليبها، وغير لغاتها. لن نجد في "أذكر أنني أحببت" ما كان يُدعى آنذاك تفجير اللغة، أو قتلها، أو سلبها الكامل ونفيها. لن نجد في المجموعة الدعاوى الفكرية والسياسية التي راجت، في مقلبٍ ثان من القصيدة الجديدة.
لم تكن "أذكر أنني أحببت" قصائد هذه الدعاوى ولا تلك المعارك. كانت في وادٍ ثانٍ، بحيث لم ينتبه قرّاؤها ونقّادها إلى أنّها تتجاوز، بكل هدوء وبنضج حقيقي، دعاوى الحداثة الشعرية ونماذجها. لم تكن هذه الدعاوى ولا تلك العناوين واللغات فيها، لأنها، بدون تعمّل، وبدون إعلان أو استعراض، تتجاوزها، ولأنها تجد الشعر وتصنعه خارجها. لأنّها لم تكن تفجّر، بل تصنع. لم يكن الشعر معركتها، كان الشعر مطلبها، وقد استطاعته وحقّقته بعيداً عن المعركة.
نفهم الآن أنّ معركة حسن عبد الله مع الشعر كانت هنا، وما كان ينتظره في العصاري ويمنحه وقتاً، كان هنا. "الدردارة" (1981) غير "أذكر أنني أحببت". إنّها شعرٌ آخر يستحقّ سهَر حسن وانتظاره. ليست المجموعات الأربع إلّا قطائع كبيرة من الشعر. أربع مجموعات، لكنْ أيضاً أربعة أشعار وأربعة شعراء.
* شاعر وروائي من لبنان