"حرّاس الذاكرة" لفاطمة مرتضى: لوحات تقول أكثر من رواية

11 يونيو 2023
من المعرض
+ الخط -

مَن يدخل إلى معرض الفنانة اللبنانية فاطمة مرتضى "حرّاس الذاكرة"، الذي يُختَتم اليوم في "صالة LT" بـ بيروت، يشعر كما لو أنه يدخل إلى بيتٍ خاص. معروضاته، التي ارتصفت في هذا المكان الضيّق نسبياً، تبدو وكأنها منَحَت الجدران حياةً خاصة، تجعل الزائر يحس أنه غريب أمامها، وأن عليه أن يقدّم نفسه لها، وأن يمعن فيها لتتعرف عليه. كل واحد من هذه الجدران يبدو وكأنه معها ــ أي اللوحات ــ قد امتلك حكايته، أو امتلك حكاية له.

على جدارٍ هناك لوحات تعرض أجساداً تخرج من جذع، تخرج نحيلة طويلة، رفيعة الأصابع المطوية، إنها أجساد تخرج من خشب، ظاهرة خشبيّته، قبالة الجسد الطالعة منه، بخطوط مديدة ناحلة. هنا الحياة تخرج من الشيء، لكنّها أيضاً عكسها. إنها أيضاً الأجساد المديدة بحزنها، الممتدّة بطولها الرفيع الذي يلامس الفناء، إنها الوجه الآخر القريب من الموت. الشكل كله مستقيم بذاته لكنه على فراغ، فليست وراءه خلفية ما. لسنا هكذا أمام رسْمٍ فقط، لسنا أمام تخطيط بحت، إننا أمام لوحة ممتلئة بذاتها، مكتفية بها، قوية بحضورها، مكتملة إلى حد التمام.

الصورة
فاطمة مرتضى - القسم الثقافي
من المعرض

هناك الجذع والأجساد الطالعة منه، لكن وسط ذلك قد نجد زخرفة منغّمة الألوان. كل ذلك مصنوع بحرفة عالية، بحيث إن الشكل المتكون من كل هذه العناصر يبدو مستوياً متناسقاً بل ورشيقاً. من كل ذلك نحن أمام لوحة واحدة، تتراصف فصولها وتتكامل على الجدار. لنقل إننا أمام ما يشبه حكاية خاصة، رواية ما منشورة على هذا الجدار وُلدت من لوحات. حكاية من مصادر مختلفة، بل ومتفاوتة، لكنها تداخلت وتآلفت وتكاملت، ووجدت لنفسها شكلها الخاص، الذي يتكون من لوحة إلى لوحة. شيء يعود إلى الفن، إلى الخط واللون والتركيب، لكنه يبدو وكأنه، من بعيد، يشكل فكرة أو يبني على فكرة.

على الجدار المقابل هناك بورتريهات، بكل ما في البورتريه من قوام وصنعة، لكنك تنظر فتشعر أن فوق الوجه المرسوم شيئاً آخر، تتميّزه فتجده من عالم النبات. هذه المرة قصة أخرى، وتكاد تكون معكوسة. ليس الخشب هذه المرة، ليس الجذع هو الذي يُخرج أجساداً بلا وجوه بل بجذوع وأيدٍ، هذه المرة هناك الوجه، الوجه هو الذي يُطلع ما يشبه أزهاراً وأوراقاً. لا تعرف لماذا نفكر بـ فرانسيس بيكون، فهذه اللوحات ليست فيها الطبقات المتراكمة، التي تشكل وجوهَ وأجسادَ بيكون، لكنّ وجهاً من مكان آخر في لوحات مرتضى يلبس الوجه ويركبه. وجوهٌ عدّة في بورتريهات، لكنها جميعها مسكونة بهذا الوجه شبه الآخر، جميعها كأنها تخرج وجوهاً منه.

لسنا أمام تخطيط بحت، بل أمام لوحة ممتلئة ومكتفية بذاتها

إذا تتبعنا هذه الوجوه، فقد نشعر بأنها تتسلسل، وأنها تنتقل من تعبير إلى تعبير، وأن في تسلسلها وتداعيها وتراصفها ما يشبه أن يكون حكايتها الخاصة، ما يشبه أن يكون رواية أخرى. قد تكون هذه هي القراءة المعكوسة لما رأيناه على الجدار المقابل، لكننا لا نترك أنفسنا لهذه المقابلة التي قد تكون خادعة، وقد تشغلنا عن تأمل الفن بما هو فن، أو تنقلنا إلى محاكمة أخرى. مع ذلك، نحن أمام البورتريهات ما كنّاه أمام الأجساد ـ الجذوع. أي أننا أيضاً نشعر أن البناء المتكامل للشكل يعيدنا أيضاً إلى الشعور بأن الشكل، ومن بعيد، يبدو هذه المرة وكأنه دمغةُ فكرة، أو أنه الفكرة وقد طبعت نفسها في شكل.

كما أننا أيضاً، هذه المرة، نوازن بين الفجائعية والعنف اللذين يعلوان الوجوه، وبين هذه الأناقة المتبقية مع ذلك من تلك القسوة والحدة. الأناقة التي تطبع الوجوه المعذبة بنوع من السويّة، ومن النُبل. لكننا نظل نشعر بأن بين هذه الوجوه رواية خاصة، قد تتقاطع مع رواية الجدار المقابل، الأجساد والجذوع، لكنها تظل مع ذلك مستقلة بنفسها.

الصورة
فاطمة مرتضى - القسم الثقافي
من المعرض

هنا أيضاً طبعة ثانية، إذا جاز أن نطلق على هذا التكامل كلمة "طبعة". مع ذلك، نحن ننتقل إلى جدار في ناحية من الغرفة، تكاد تكون جداراً آخر في غرفة أُخرى، نعثر هنا على لوحات هي، هذه المرة، من خيطان، وفي هذه الخيطية المتشابكة، والأشكال الخيطية التي تتكون منها، أشكال متداخلة، بل ومتراكبة، لكنها جميعها بهذه الرقّة والنحول والشبكية التي تنشأ من الخيطان. نحن هذه المرة أمام ما يشبه أن يكون ليل المعرض، أو رسوماته الغائمة الآتية من تشبيك ليلي. هنا أيضاً ليست الخيطان وحدها ما بين اللوحات، بل هناك أيضاً ذات الرسم السائل الذي ينتقل بين اللوحات. هنا أيضاً ما يشبه أن يكون ذاكرة مدينة، أو وجهاً معكوساً لها. هنا أيضاً لوحة واحدة تتوزع على لوحات، وبطبيعة الحال هناك خطاب واحد أو رواية متكاملة.

معرض فاطمة مرتضى هو أيضاً ما يعدو رسالتها الخاصة. المزاوجة بين الأشكال، وبين المصادر المختلفة المتفاوتة، والجمع ما بين القسوة والأناقة، وبين التكوين والفراغ، وبين الرسمة والحكاية، بين الشكل والفكرة المدموغة به: في ذلك كلّه ما يدمغ الانطباع البكر بالحرفة القادرة.


* شاعر وروائي من لبنان

 
المساهمون