في عام 2022، أصدرت "جامعة هارفارد" الأميركية طبعة ثانية من كتاب الباحث البريطاني ريتشارد أوفندن "حرق الكتب: تاريخ للتدمير المتعمّد للمعرفة"، والذي صدرت طبعتُه الأُولى في لندن عام 2020. والمؤلّف شخصيةٌ معروفة في العالم الأنكلوساكسوني؛ فهو يشغل، منذ 2014، منصب مدير "مكتبة بودليان" في "جامعة أوكسفورد" التي تأسّست عام 1598 وفُتحت للعموم عام 1602، وعمل سابقاً مديراً لمركز دراسات الكتب التابع للمكتبة نفسها. ومن الواضح أنّ الخبرة المتراكمة من شغله لهذين الموقعين على مدى عدّة عقود قد ساعدته على إصدار هذا الكتاب المرجعي عن ظاهرة "حرق الكتب" عبر ثلاثة آلاف سنة من التاريخ.
تقوم الأطروحة المركزية للكتاب، كما أوضحها المؤلّف في المقدّمة وفي ثنايا الفصول الخمسة عشر الممتدّة على 308 صفحات، على أهمّية المعرفة في تقدُّم البشرية، وعلى الدور الهامّ الذي تلعبه المكتبات والأرشيفات في حفظ الوثائق والكتب التي تُعبّر عن هوية ومساهمة كلّ أمّة وبلد في التطوّر المعرفي للعالم، والتي تُحفّز بدورها الأجيال الجديدة على التعرّف إلى تراث الأمّة والإسهام في مزيد من التقدّم المعرفي للإنسانية. في هذه الحالة، يحدث ارتباط بين المعرفة والهوية، وتصبح المعرفة مصدراً لتكوين الشخصية أو الهوية ومُعبّراً عنها في آن واحد.
رأى في إحراق الكتب إبادة ثقافية تمهّد للتطهير العرقي
ولكنّ هذا الأمر، كما يُوضّحه المؤلّف، تعيه أيضاً الجهات الأُخرى التي لا تنظر بعين الارتياح إلى انفتاح المعرفة الإنسانية، أو التي تحرّكها أيديولوجيات توسّعية تسعى إلى تدمير النتاج المعرفي لشعب أو شعوب مجاورة، كخطوة استباقية لتدمير الهوية الدالّة على وجود هذا الشعب أو تلك الشعوب المجاورة. ولذلك، يُميّز أوفندن هنا بين الحرق الذي كان يلحق بالمكتبات والأرشيفات بالصدفة، وبين الحرق المتعمّد الذي يُمثل "الإبادة الثقافية" ويُمهّد لـ"التطهير العِرقي" أو التخلّص من الشعب "غير المرغوب به".
في الفصل العاشر، المخصَّص لسراييفو خلال الحرب على البوسنة بين عامَي 1992 و1995، تبدو أطروحة المؤلّف واضحةً في الربط بين الإبادة الثقافية والتطهير العرقي، أو في التخلّص من شعب غير مرغوب به في المنطقة.
في هذا الفصل، يُركّز ريتشارد أوفندن على حدثين مهمّين بعد أن أحكمت المدفعية الصربية مواقعها على الجبال المحيطة بسراييفو: "مكتبة المعهد الشرقي" و"المكتبة الجامعة والوطنية" في سراييفو؛ ففي السابع عشر من أيار/ مايو 1992، قصفت المدفعية الصربية بشكل مركّز "المعهد الشرقي" (تأسّس عام 1950)، الذي كان يضمّ أهمّ مجموعة للمخطوطات الشرقية في اللغات العربية والتركية والفارسية، وكانت نتيجة القصف تحوّل المعهد إلى أنقاض وتدمير تامّ لأكثر من خمسة آلاف مخطوطة، بالإضافة إلى حوالي ربع مليون وثيقة تتعلّق بتاريخ البوسنة خلال الحكم العثماني.
وأمّا الحدث الثاني، فكان في الخامس والعشرين من آب/ أغسطس من العام نفسه، وتمثّل في قصف مُركّز لـ"المكتبة الجامعية والوطنية للبوسنة"، والتي تضمّ أكثر من مليون كتاب، وكانت تقع في مبنى جميل شُيّد على الطراز الأندلسي في نهاية القرن التاسع عشر، وكان من رموز سراييفو المميّزة.
ومثلما لاحظ المؤلّف، فقد تمّ القصف بقنابل حارقة بقيت تحرق كلّ ما في المكتبة خلال ثلاثة أيام. وحتى عندما همّ الموظّفون والمواطنون بإنقاذ بعض الكتب، سقط بعضم ضحيّةً لرصاص القنّاصة الصرب الذين كانوا يتدخّلون بعد المدفعيّة لـ"إكمال المهمّة".
ويستشهد المؤلّف، هنا، بشهادة مراسلة "بي بي سي" كاثرين أدي، التي كانت تُقيم في فندق "هوليداي إن" في سراييفو مع غيرها من المراسلين الأجانب حين تعرّض لقصف القوّات الصربية في أيلول/ سبتمبر 1992. ولمّا اتصلت المراسلة بقائد المدفعيّة الصربية لتسأله عن سبب قصف الفندق المخصَّص للمراسلين الأجانب، قدّم اعتذاراً لكون القصف "حدث بطريق الخطأ"، وأنّ الهدف المقصود كان "المتحف الوطني" الموجود قبالة الفندق!
مركزيةٌ أقصت ما كُتب في الموضوع بغير الإنكليزية
وكما أنّ المعرفة لا تموت، مثلما يقول المؤلّف، فإنّ العدالة أيضاً لا تموت؛ فقد قُدّم قادة الجيش الصربي إلى "المحكمة الجنائية الدولية" في لاهاي؛ ومنهم الجنرال راتكو ملاديتش الذي اتُّهم بـ"تدمير المباني الدينية والثقافية والمكتبات..."، وحُكم عليه بالسجن المؤبَّد عام 2017، كما هو الأمر مع رادوفان كاراجيتش رئيس جمهورية الصرب الذي ادّعى أنّ سكّان سراييفو هُم الذين دمّروا المكتبة لأنّ طراز بنائها كان لا يعجبهم!
وتبدو أطروحة الكتاب بشكل أوضح خلال الحرب المستمرّة منذ عدّة شهور على غزّة؛ فقد جاء في موقع "بي بي سي" في الثامن من كانون الثاني/ يناير الماضي أنّ القصف المتواصل للقوّات الإسرائيلية شمل أيضاً "المكتبة العامّة" التابعة لبلدية غزّة، والتي "كانت تضمّ عدداً كبيراً من الكتب والوثائق التاريخية ومجلّدات تحتوي صحفاً فلسطينية قديمة"، كما تمّ تدمير "الأرشيف المركزي" للمدينة التابع للبلدية، و"الذي كان يحتوي وثائق تاريخية مهمّة يراوح عمرها ما بين 100 و150 عاماً"، حسب مدير البلدية نجيب السراج، الذي وصف ما حدث بأنّه "تدمير لذاكرة وحاضر وتاريخ وتراث".
ولذلك، ستكون لدى المؤلّف ريتشارد أوفندن مادّة كافيةٌ لفصل جديد يضيفه إلى الطبعة القادمة للكتاب تؤكّد أطروحته المركزية، ولكن هذا الأمر يرتبط بالملاحظة الأُخرى عن الكتاب.
ومع أهمّية هذا الكتاب، الذي يستحقّ الترجمة إلى العربية، فإنّ اللافت للنظر فيه المركزيةُ الأنكلوساكسونية التي تتمثّل في الاعتماد شبه الكلّي على المصادر والمراجع المنشورة باللغة الإنكليزية. ولذلك، فإنّ الفصل المتخيَّل عن غزّة في الطبعة المقبلة يُمكن ألّا يكون في حالة وجود مادة "غير كافية" له بالإنكليزية.
فمن أصل 387 مصدراً ومرجعاً اعتمد عليها المؤلّف لإنجاز كتابه، نجد أن ثلاثة منها بالألمانية والبقيّة كلّها باللغة الإنكليزية. ومن هنا نجد أنّ أهم مَنْ كتب عن "حرق الكتب" قبل أوفندن بعقود، وهو الأكاديمي الكرواتي ألكسندر ستيبتشيفيتش (1928 - 2015)، لم يدخل هذا الكتاب إلّا بفضل مقالة موجزة صدرت بالإنكليزية عام 1988 في العدد 33 من مجلّة "المكتبات والثقافة". وكانت المقالة في الأصل محاضرةً ألقاها ستيبتشيفيتش في الأردن عام 1995 بعنوان "تدمير التراث الشرقي في البوسنة والهرسك خلال الحرب 1992 - 1994".
ومن باب الوفاء لستيبتشفيتش، نذكر أنّه اشتغل على هذا الموضوع في كتابه المرجعي "تاريخ الكتاب" الذي صدر في زغرب باللغة الكرواتية وتُرجم إلى الإيطالية ثمّ إلى العربية في طبعتين ضمن سلسلتَي "عالم المعرفة" الكويتية عام 1993 و"مكتبة الأسرة" الأردنية عام 2017، ثمّ إلى الفارسية وغيرها.
وبسبب الاهتمام الذي ناله هذا الكتاب، الذي حرص مؤلّفه على أن يُعيد الاعتبار إلى الشرق في التاريخ المجيد للكتاب والطباعة، فقد قضى السنوات الباقية من حياته وهو يبحث وينشر الكتب في هذا المجال. وهكذا فقد نشر كتابه الثاني "الرقابة على المكتبات" عام 1992، وصدر كتابه الثالث "حول الرقابة الصارمة" عام 1994، وقد خصّص معظمه لحرق الكتب عبر التاريخ، وتناول الموضوع نفسه في كتابه الرابع "مصير الكتاب" الذي صدر عام 2000، ليتفرّغ بعدها لكتابه "التاريخ الاجتماعي للكتاب عند الكروات"، والذي صدر في ثلاثة مجلّدات ما بين 2004 و2008.
وبغضّ النظر عن أنّ الكتب اللاحقة صدرت باللغة الكرواتية، فقد كان كتابُه الأوّل "تاريخ الكتاب"، الذي تُرجم إلى عدّة لغات، كافياً للإشارة فيه إلى من سبقوه إلى التأليف في هذا المجال. ولكن عدم صدور هذا الكتاب باللغة الإنكليزية جعله وكأنّه غير موجود، ولم يستحقّ مؤلّفه حتى أن يُذكَر بالاسم في مقدّمة ريتشارد أوفندن لكتابه. ولذلك من المحتمل ألّا تدخل غزّة وغيرها في الطبعة الجديدة من كتابه، الذي يجب أن يأخذ فيه المؤلّف بالاعتبار ما كُتب عنه، بتبرير بسيط: لا توجد عن ذلك "مادّة كافية" باللغة الإنكليزية!
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري