جون بالدوك.. حين نطق الصوفيّ سرّ الوجود

07 أكتوبر 2021
من رسومات كتاب "منطق الطير" لفريد الدين العطار
+ الخط -

يرى بعض الباحثين أنّ التصوّف أتى كردّة فعل على احتكار المؤسّسة الفقهية الرسمية في القرن الثالث الهجري، حيث هيمنت تنظيرات علماء الكلام بدعم من السلطة، فعكَس اعتزال المتصوّفة نوعاً من الاحتجاج من خلال انسحابهم من الحياة العامة، وتبنّيهم خلاصاً فردياً.

لا يمكن الإمساك بحقيقة ثابتة حول نشأته، فقد تعدّدت التفسيرات حول رؤية المتصوّفة للنظام الاجتماعي والسياسي وعدم انخراطهم فيه، لكن فلسفتهم ظلّت جاذبةً للمريدين على اختلاف طرائقهم، وكذلك للباحثين؛ ومنهم الكاتب البريطاني جون بالدوك الذي ألّف كتابه "جوهر الصوفيّة" عام 2004.

يتضمّن الكتاب، الذي صدرت حديثاً نسخته العربية عن "العائدون للنشر" بترجمة وتحقيق الباحثة لمى سخنيني، ستّة فصول تناولت بدايات الدعوة الإسلامية ونشأة النبي محمد، مروراً بالكتابات المبكرة للصوفيين والرمز فيها، وانتهاءً باستعراض سِير عدد من أبرز رموزهم مثل الحسن البصري ورابعة العدوية وأبو يزيد البسطامي وفريد الدين العطّار والشُبستري وغيرهم.

انتُقد الصوفيون بسبب تأويلهم المختلف للعلاقة مع الخالق

تشير المترجمة إلى أن بالدوك بدأ حياته رسّاماً ومدرّساً لتاريخ الفن في "مدرسة اللوفر" الباريسية، ثم في لندن، لكنه ترك مهنة التعليم في نهاية المطاف من أجل استكمال استكشافه الجوانب الرمزية والتقاليد الدينية في العالم؛ حيث وضع مؤلّفات مثل "جوهر الرومي" و"مبادئ المسيحية" وغيرهما.

يقف المؤلّف عند محطّات أساسية في حياة النبي محمد، وفي مقدّمتها كلمة "اقرأ" التي خاطبه بها جبريل في أثناء خلوته في غار حراء وتُعدّ إيذاناً بنشر الإسلام، حيث قرأ الرسول "كلمة الله" في تلك الليلة بعد أن نزل القرآن كلّه إلى قلبه، مستشهداً بالباحث الأميركي فيكتور دانر بأنّ الصور المرتبطة بالقلب لها أهمية خاصة، لأن الطرق الصوفية يُشار إليها غالباً باسم "طريق القلب"، كما يتحدّث الصوفيون أيضاً عن "صقل القلب" من خلال تذكّر أو ذكر الله.

الصورة
غلاف الكتاب

أمّا حول تأويل الصوفية للقرآن، فيوضّح بالدوك بأنّ الرومي تبنّى تفسيراً روحياً للآية الواردة في "سورة البقرة"، التي تقول: "إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ"، حيث يقرّ التفسير الحرفي، لكنه يضيف أن البيت يحيل إلى عالم الصوفيّين الداخلي الذين يطلبون من الله أن يطهّره من الرغبات والإغراءات الدنيوية حتى يصبح ملاذاً يمكن التواصل معه في سلام وأمن.

ويلفت إلى أنّ علماء الفقه اهتمّوا بالشريعة بما فيها من تعليمات وتكليف للمسلمين، فيما مال الصوفيّون إلى المسار الداخلي (الطريق)، ولم يميلوا إلى إنشاء هياكل متجانسة على غرار الفقهاء؛ فالجوهر بالنسبة إليهم هو الأهم، ما عزّز الانتقادات لهم مع تقديمهم لتأويلات مختلفة في تواصلهم مع الذات الإلهية وطقوسهم الناشئة عنها.

حققت أطروحات التصوف غايتها في الرد على انتقاد السلطة الدينية

يستعرض بالدوك الأدبيات الصوفية بدءاً من كتاب "اللمع في التصوف" لأبي نصر السراج في القرن العاشر الميلادي، الذي يُعدّ أقدم المراجع التي وصلت إلينا، وتوالت بعده مؤلّفات مثل "قوت القلوب في معاملة المحبوب" لأبي طالب المكي، و"الرسالة القشيرية" لأبي القاسم النيسابوري، كذلك ظهرت الطرق الصوفية بعد ذلك بفترة قصيرة مثل الشاذلية والمولوية والنقشبندية.

ويحلل أيضاً الرموز فيها، التي تبدأ بفرضية أن الكائن الرمزي (الواقع الخارجي) له معنى ضمني (الواقع الداخلي)، والتي اتخذت تشبيهات مهمّة في تلك الأدبيات كـ"القطرة والمحيط"، و"نبيذ المحبوب"، و"العاشق والمعشوق"، و"المجنون وليلى" المأخوذ من قصة قيس وليلى، حيث باتت الأخيرة تجسّد رمزياً للصوفيين المسار الذي يدلّ على سرّ الجوهر الإلهي.

في الفصل الأخير، يحاول بالدوك فهم جوهر الصوفية من خلال تتبّعه لسِير بعض أبرز شخصياتها وما تركوه من فلسفة لا تزال حاضرة إلى اليوم في الثقافة الإسلامية، كما عبّرت عن جانب منها رابعة العدوية في دعائها الشهير "اللهم اجعل الجنة لأحبائك، والنار لأعدائك. أمّا أنا فحسبي أنت"، وأبو القاسم الجنيد الذي قال: "التصوّف أن تموت عن نفسك، وتحيا بربّك".

ينبّه المؤلّف، في الخاتمة، إلى أنّ معظم الكتابات التي أوردها حين محاولة تفسير تعاليم الصوفيين الباطنية بلغة ظاهرية يمكن فهمها من غير الملمّين بالموضوع، وأنّ هذه الطروحات حقّقت غايتها في الردّ على السلطة الدينية التي وصفتهم بالهرطقة، حيث اعتُرِف بالصوفية ولم تعدّ ثمة حاجة لمزيد من الكتابات لإثباتها.

 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون