تُعد رحلة البريطاني جوزيف بيتس إلى مكّة عام 1680، حاجّاً إليها بصحبة "مالكه" - وهو ضابط جزائري تائب، مصدراً مهمّاً عن وصف المدينة الإسلامية المقدّسة، وشعائر الحج، والمدينة المنوّرة، في تلك الفترة الغامضة بالنسبة إلى الغربيين. وبسبب ذلك، أصبحت هذه الرحلة من أهم المراجع للرحالة والمستكشفين الأوروبيين الذين أتوا بعده، والراغبين في اقتحام مجاهل الصحراء العربية.
وبيتس بحّار بريطاني، أسرَه قراصنة جزائريون عام 1678، وله من العمر خمسة عشر عاماً، ويخبرنا بأن "سيده" الذي اشتراه من القراصنة كان قائد جماعة فرسان في الجيش العثماني، مهملاً لفروضه الدينية، متهتكاً في حياته، إلى أن ثاب إلى رشده، وعاد إلى دينه، فأجبر "عبده" جوزيف على اعتناق الإسلام، وسمّاه يوسف، فاختتن، وامتنع عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، والتزم مع "سيّده" بأداء الفرائض الإسلامية ومنها فريضة الحج. وبعد سنوات حصل جوزيف على حريته فعاد إلى بلده، وارتدّ عن الإسلام، ونشر مذكّراته عام 1704، وصدرت ترجمتها العربية قبل نحو ثلاثة عقود في القاهرة، عن "الهيئة المصرية العامّة"، بتوقيع المترجم عبد الرحمن عبد الله الشيخ.
من الجزائر إلى جدّة
بدأت رحلة حج جوزيف بيتس و"سيده" عام 1680 من الجزائر، ووصلا إلى الإسكندرية بحراً، ثم رافقا موكب الحجّاج الجزائريين عبر النيل إلى القاهرة، لينطلقوا من هناك إلى ميناء السويس براً، وفي السويس يلاحظ بيتس غرابة السفن الراسية هناك، ووجه الغرابة عدم وجود سطح لها، وعمق الجزء الغاطس منها في الماء، بهدف ملئه بالمؤن المتجهة إلى مكة كما يقول.
وبعد الإبحار في خليج السويس يصلون إلى مياه البحر الأحمر غير الآمنة حيث يصفها بالقول: "الإبحار في البحر الأحمر غير آمن ليلاً إلّا في موضع واحد لا يستغرق أكثر من ليلتين، وذلك بسبب كثرة الصخور التي ما نكاد ننتهي من رؤية بعضها حتى نرى بعضها الآخر، وأحياناً تكون قريبة من السطح حتى يمكنك إلقاء حصاة عليها، وبعض الصخور أضخم من غيرها، وبعضها يبدو كجزيرة، وبعضها يبرز بالفعل فوق سطح الماء، وبعضها تحت السطح بقليل".
ويبدو أن الريح لم تكن مواتية، فقضت السفينة حوالي عشرين يوماً حتى وصلت إلى موضع جزيرة "المرابط"، وبعد ذلك ببضعة أيام وصلوا إلى رابغ، فلبس كل الحجّاج، ما عدا النساء، ملابس الإحرام، قبل أن يصلوا إلى جدّة، وهي أقرب الموانئ إلى مكّة. وفي جدّة أفرغت السفينة حمولتها، وهناك كان الكثير من الأدلّاء المطوفين بانتظارهم.
عيون تفيض بالدموع
بمجرّد وصولهم إلى مكّة، سار بهم الدليل (المطوِّف) في شارع يتوسط البلدة، ويؤدي إلى الحرم، وبعدما أناخوا الجمال، وجّههم الدليل إلى حوض الماء للوضوء، ومن ثمّ ذهب بهم إلى الحرم فدخلوه من باب السلام، وهناك تركوا أحذيتهم عند شخص موكل بها. ويقول: "بعد اجتيازنا مدخلاً استغرق اجتيازه خطوات قليلة، وقف المطوِّف ورفع يديه صوب بيت الله الواقع وسط المسجد الحرام، وحذا الحجّاج حذوه، وردّدوا وراءه الكلمات التي يقولها، وعندما وقع نظر الحجّاج للمرة الأولى على الكعبة المشرفة، فاضت عيونهم بالدموع، ثم طفنا بالكعبة سبعة أشواط، ثم صلينا ركعتين، ثم قادنا الدليل للطريق مرة أخرى ورحنا نهرول وراءه تارة، ونمشي تارة أخرى من أحد طرفي الطريق إلى طرفه الآخر، وبعد أن أتممنا السعي عدنا لمكان إناخة دوابنا ومعها المؤن والضروريات، وبحثنا عن سكن، ولما تيسر لنا خلعنا ملابس الإحرام، ولبسنا الملابس المعتادة مرة أخرى".
ويؤكد بيتس أن الحجّاج استغلوا وقتهم بعد ذلك في العبادة، فلم يكتفوا بالواجبات المفروضة، وإنما راحوا يقضون كل وقت فراغهم في الحرم يطوفون حول الكعبة التي تبلغ حوالي أربع وعشرين خطوة مربعة. ويقول إن الحجر الأسود تمّ تثبيته في أحد أركان بيت الله، وهو مطوّق بسياج فضي، وفي كل وقت يتقدم الحجّاج نحو هذا الحجر، ثم يقبّلونه ويطوفون سبعة أشواط، ويصلّون ركعتين، ويقولون إن هذا الحجر كان يسمّى الحجر الأسعد، ويعني الحجر الأبيض، ولكنه اسودَّ من خطايا البشر الذين يقبّلونه. ويشير إلى أن المطاف لا يخلو من الطائفين حول الكعبة لا ليلاً ولا نهاراً.
وصف الطائفين
يتابع وصفه للطائفين: "في بعض الأحيان، يكون الطائفون حول الكعبة عدّة مئات في وقت واحد، خاصة بعد صلاة العشاء، أي بعد إيقاد الشموع، ويكون الطائفون من الرجال والنساء، إلّا أن النساء يطفن في الدائرة الأوسع، بمعنى أنّ الرجال هم الأقرب لبيت الله، أما النساء فيشكّلن دائرة بعد دائرة الرجال، أي الدائرة الأبعد من الكعبة، لذا فمن الصعب أن يتمكن كل الطائفين من تقبيل الحجر الأسود. وإذا كان الطائفون قليلين، انتهزت النسوة الفرصة فقبّلن هذا الحجر، وأسرعن في الطواف لتقبيله مرّة أخرى، وللمكوث أمامه فترة طويلة، ويعطي الرجال للنساء هذه الفرصة، ولا يزاحمونهن احتراماً للزمان والمكان".
مكّة وما حولها
ويقدم بيتس وصفاً لمكّة وما يحيط بها من تلال وجبال حيث يقول: "تقع مكّة في واد غير ذي زرع، وتبعد عن ساحل البحر الأحمر يوماً واحداً، والأقرب أنها تقع وسط تلال صغيرة كثيرة. لذا فهي لا تحتاج لبوابات أو أسوار، ومبانيها كما سبق أن ذكرت عادية جداً وغير مهيّأة لاستقبال الوافدين، فما بالك بالآلاف المؤلّفة من الحجّاج الذين يصلون إليها كل عام".
ويضيف: "تحيط بمكّة ولعدّة أميال تلال صغيرة متقاربة، وقد ارتقيت بعض هذه التلال بالقرب من مكّة، بحيث كان في إمكاني رؤية مداها عدة أميال. وهذه التلال جميعها من صخور حجرية تميل للسواد وتبدو على البعد كأنها أكوام قش، ولكنها جميعاً تتجه نحو مكّة، وبعض هذه التلال يبلغ محيط الواحد منها نصف ميل".
ويخبرنا رحالتنا عن زيارته لغار حراء، وملاحظته أنه كهف عادي غير مزين، ويؤكّد وجود ماء وافر لكن من دون عشب أخضر إلا في مواضع قليلة، غير أنه يذكر وجود فاكهة طيبة، كالعنب، والشمام، والبطيخ والخيار، والقرع، وغير ذلك، ويشير إلى أن هذه الفواكه تُجلب من مكان على بعد يومين أو ثلاثة يسمّيه "حبش"، والصحيح الطائف.
حرارة لا تُطاق
وفي وصفه للطقس يقول: "الحرارة في مكّة شديدة، والناس ينتقلون في الشوارع من جانب إلى جانب بحثاً عن الظلّ، والرجال ينامون على أسطح منازلهم تلمّساً لنسمات الهواء، أو في الشوارع أمام دورهم، وبعضهم يضعون فراشهم فوق حصر رقيقة أمام منازلهم، وبعضهم يضعون دككاً، كتلك التي نضع فوقها البراميل في إنكلترا، وتتماسك أجزاء هذه الدكّة بحبال مشدودة شدّاً وثيقاً، ويضعون فرشهم فوق الدكك، وهم يرشّون أرض الشارع بالماء قبل وضع فراشهم للنوم، أما بالنسبة لي فقد كنت أنام في الهواء الطلق دون أي غطاء فوق سطح المنزل، وكنت آخذ قطعة قماش كتّاني وأغمسها في الماء وأضعها فوقي في الليل، وأجدها جافّة عندما أستيقظ، فأبللها بالماء مرة أخرى، فإذا نمت وصحوت مرة أخرى وجدتها جافة، وهكذا أظل أبللها طوال الليل مرتين أو ثلاثاً".
المسجد الحرام
بعد ذلك، يقدم بيتس للقارئ معلومات عن المسجد الحرام، ويقول: "أبوابه تبلغ حوالي اثنين وأربعين باباً، وهو عدد غير كبير لأن الظروف أحياناً، تضطرهم لغلق بعضها، وهو قريب الشبه من دار المقاصة في لندن، ولكنه أوسع بعشر مرات، وكل أبوابه مفتوحة وتفضي لممرات مغطاة بالحصى، ما عدا بعض الممرات التي رصفت بأحجار عريضة، وهي الممرات المؤدية للكعبة المشرفة، والأروقة المحيطة بالصحن، حيث الكعبة المشرفة مرصوفة بأحجار عريضة جميلة، ولها عقود مقنطرة، وعلى الجدران الداخلية للأروقة توجد غرف صغيرة تدور مدار كل الأروقة، وقد أعدت هذه الغرف الصغيرة (الخلوات) للذين وهبوا حياتهم للقراءة والدرس والتعبد، وهي طائفة تشبه إلى حد كبير طائفة الدراويش".
ويصف لنا الدراويش الذين يعيشون حياة الزهد، ويجوبون المنطقة من أقصاها إلى أدناها مثل الرهبان المتسولين كما يقول، حيث يعيشون على صدقات الآخرين ويلبسون عباءات صوفية بيضاء، وغطاء رأس مرتفعاً طولاً من صوف أبيض يشبه كثيراً غطاء رأس الرهبان الفرير في الكنيسة الكاثوليكية، ويضعون على ظهورهم فروة خروف أو جلد ماعز ليتخذوها فراشاً للنوم، وأكمامهم عريضة طويلة، وعندما يقرأون فإنهم يجلسون متربعين فوق الأرض، وعادة ما يحملون مسابحهم حول أعناقهم أو حول أذرعهم، بينما يحملها آخرون في جيوبهم".
ويلفت النظر إلى وجود الكثير من الأتراك الذين يندرجون في سلك الدروشة، ويخبرنا عن قصة شقيق "سيّده" الجزائري الذي انقلب بين ليلة وضحاها من شخص لاهٍ إلى رجل زاهد متمسّك بأهداب التدين.
كسوة الكعبة وطيور الحمام
يستطرد بيتس في وصف كسوة الكعبة، والتي تُصنع في القاهرة بأمر من السلطان العثماني كل عام، فيقول إنها "مزخرفة من فوق وسطها بشريط من حروف ذهبية، ويبلغ طول الحرف قدمين، أما عرضه فيبلغ بوصتين، وبالقرب من الطرف السفلي للكعبة توجد حلقات نحاسية مثبتة به تمر منها حبال قطيفة تربط بها الأطراف السفلية للكسوة، وعتبة باب الكعبة مرتفعة بحيث لا يصل إليه من يريد الدخول، ومن هنا فثمّة سلّم متحرك يتم إحضاره لهذا الغرض، وباب الكعبة مغطى كله بالفضة، وثمّة ستارة مرفوعة معلقة عليه تصل للأرض، وتظل هذه الستارة مرفوعة طوال أيام الأسبوع، فيما عدا ليلة الثلاثاء ويوم الجمعة، وهو يوم التعبد (الصحيح الصلاة الجامعة)، وقد زينت ستارة الباب بزينات ذهبية ثقيلة تزن حوالي عشرين رطلاً".
ومن الأشياء التي تلفت نظره في مكّة طيور الحمام الأزرق التي لا يجرؤ أحد على صيدها أو إيذائها، بل يقدم لها الحجّاج الحبوب. كذلك يصف لنا جوف الكعبة من الداخل، ويقول إنه لم يجد فيه ما يثير الانتباه، سوى عمودين خشبيين في الوسط لمساندة السقف، وقضيب حديدي مثبت فيهما عُلّقت عليه ثلاثة مصابيح فضية، ويشير إلى أن الأرضية مصنوعة من الرخام وكذلك الجدران الداخلية.
ويعدد رحالتنا معالم الحرم فيقول إن مقام إبراهيم الخليل يقع على مسافة اثنتي عشرة خطوة من الكعبة، وتحيط به شبكة حديدية، وهو مغطى بكسوة مزركشة جميلة، وعلى مسافة قصيرة منه توجد بئر زمزم، ويشير إلى تقدير هذا الماء تقديراً عالياً، ويقول إن أربعة رجال يقفون عند البئر لسحب الماء منها دون مقابل، ويستخدم كل رجل من هؤلاء قربتين من جلد، مربوطتين بحبل إلى عجلة صغيرة، وبينما تدور العجلة ترتفع قربة مملوءة وتنزل فارغة لتُملأ من جديد.
جبل عرفات
يخبر بيتس قرّاءه عن الوقت والمكان اللذين يصبح فيهما المسلم حاجّاً حقيقياً، ويقصد بذلك جبل عرفات، حيث يقول: "إن عيد الأضحى يأتي بعد شهر رمضان بشهرين وعشرة أيام، وفي اليوم الثامن بعد الشهرين آنفي الذكر يلبسون ملابس الإحرام مرة أخرى، ويذهبون إلى جبل عرفات الذي سمي بهذا الاسم لأن آدم قد تعرف فيه على حواء مرة أخرى. وجبل عرفات ليس ضخماً ضخامة تجعله يستوعب الأعداد الهائلة من الحجّاج الذين لا يقلون عن سبعين ألفاً كل عام، وفي اليوم التاسع من شهر ذي الحجة يعوض الله هذا العدد بملائكة من عنده، ينزلون على هيئة بشر إن كان عدد الحجّاج أقل من العدد آنف الذكر. وهناك أحجار دالة تحيط بالجبل لتحديد حدود ما يسمى عرفة أو عرفات، وتعتري الحماسة بعض الحجّاج فيأتون إلى هنا قبل الميقات، وينصبون خيامهم منتظرين يوم عرفة، أو يوم الوقفة، ولم أر فوق عرفات أية معالم يمكن وصفها إلّا قبة صغيرة فوق الجبل، وفي حوالي الساعة الواحدة أو الثانية، وهو وقت الصلاة توضّأنا استعداداً لها".
ويتابع: "لقد كان مشهداً يخلب اللبّ حقاً، أن ترى هذه الآلاف المؤلفة في لباس التواضع والتجرّد من ملذات الدنيا، برؤوسهم الحليقة، وقد بلّلت الدموع وجناتهم، وأن تسمع تضرّعاتهم طالبين الغفران والصفح لبدء حياة جديدة، وتستمر هذه التضرعات، وتلك الابتهالات طوال أربع ساعات أو خمس، أي حتى يحين موعد صلاة العشاء".
مِنى والاحتفالات
يشير جوزيف بيتس إلى تحرك الحجّاج في الصباح التالي إلى مِنى على بعد نحو ميلين عن مكّة، حيث يذبحون أضحياتهم، وينصبون خيامهم هناك، حيث يقضون يوم العيد الأول ليرموا الجمرات على العمود الأول، وفي اليومين الثاني والثالث يرجمون العمودين المتبقيين.
ويصف بيتس أجواء احتفالات العيد بقوله: "يقضون هذه الأيام الثلاثة في فرح واحتفال، ويصبح الليل نهاراً بسبب وفرة المصابيح المضاءة، ويطلقون البنادق، وتمتلئ السماء بالألعاب النارية، لأنهم يعتقدون بأن كل ذنوبهم محيت، وأنهم إذا ماتوا دخلوا الجنة مباشرة بغير حساب إذا لم يرتدّوا عن دينهم".
من مكّة يتوجه بيتس إلى المدينة المنورة فيصف بشكل مسهب الطريق وموكب الحجّاج، إلى أن يصلوا إلى المدينة فيقول إنها صغيرة وفقيرة، ومحاطة بسور، وفيها مسجد عظيم، ولكنه ليس عظيماً كمسجد مكّة. وبعد المدينة يعود إلى القاهرة متّخذاً الطريق البري هذه المرة وسط قبائل البدو.