لا أحتمل العيش في حالة "تحديث دائم". ولست ممن يفتنُهم "الجوعُ إلى المستجدات" بتعبير هايدغر القديم. لا كشخص في حالة لجوء مستمر منذ الميلاد، ولا كشاعر يتعامل مع زمنه وأحداثه بمنظور عابر للأزمان.
إن في جبلتي، جرثومة الحنين إلى البطيء: إلى الحضارة العظمى التي عرفتها البشرية قاطبة، عن طريق الفلاحة.
خاصة وبشر عصرنا المنكود يحيون في أزمنة اللهاث والسرعة: إيقاعهم على إيقاع الأجهزة المحمولة، كنموذج نمطي للضحية، في عقود توحش احتكار الرأسماليات.
نحن، على العكس، بشر من عواطف وغرائز وعقل. ولا يصح ربط دورتنا بدورة الإنترنت، التي تتوقف عن العمل بشكل صحيح إذا لم يتم تحديثها. وعليه، فإذا تجنبنا هذا النوع من الوجود، يمكننا العيش لا أقول بشكل مثالي (فما من يوتوبيا في الشرق أو الغرب)، بل أقل سوءًا وحتى أفضل قليلاً. ما فائدة موضة التحديث هذه؟
ألا تكمن فائدتها أساسًا عند مخططيها في ضمان أن نتوقف عن التفكير في عمق أي شيء على الإطلاق، وأن نختبر عدم الأصالة اللطيف، هذا الذي يسمح لنا فقط بالتعامل مع سطح الأشياء وليس غورها؟ إن موضة المتابعة تساعد على تجنب التفكير كثيرًا. شخص مهووس بأخبار اليوم فقط، لن يستغرق لا في ما وراء الأحداث، ولا في ما وراء الوجود. إنه ضحية زمنه اللحظي، مقطوعاً عن الماضي، ولا علاقة له بالمستقبل.
نحن بشر من عواطف وعقل ولا يصح ربط دورتنا بدورة الإنترنت
طوال عمرها والرأسمالية تعمل على تسطيح الوعي وتنميطه، والمواطن الغربي من عامة الناس ـ بما أننا نعيش في الغرب ـ هو الدليل. إنه متيم بالانتقال، بينما هو أسير القالب، من شيء إلى آخر بالصفة التي لا تصيب الهدف، بل تتجول، وترتكب المزيد من الأخطاء. إنه يعاني من اغتراب الضمير.
وما دام الوعي مسطحاً، فمن مضاعفات التسطيح ما أوصى المفكر الألماني بـ"الحذر" منه: النميمة والفضول اللذين تستحضرهما التفاهةُ ـ ممثلةُ الاستهلاك غير الضروري للسلع المادية، والثقافية الخالية تمامًا من المعنى.
إن السمة المميزة لمجتمعاتنا الحالية، التي تتقاطع معها علامات "التقدم"، هي الخسارة التي نمر بها (سواء كنّا مدركين ذلك أم لا)، وهي أن وقتنا لا تنتج عنه تجارب.
ما الذي اكتسبناه من العيش في نموذج السرعة اللامحدودة؟ إذا أخذنا وقتًا أقل للقيام ببعض الأشياء التي كانت تتطلب في السابق مزيدًا من الوقت، فلماذا نشعر الآن ألّا وقت لدينا، وأنّنا دومًا ضحايا ديكتاتورية الوقت النافد؟ بدون وقت للتفكير، كيف نتعامل مع قطبَي الوجود: الحياة والموت؟ إذا كنّا قد ولدنا لنحيا (والموت جزء من الحياة)، فلماذا تحاول ثقافة الإنترنت محو كل هذا؟
إن جعل إمكانية الموت غير مرئي يكشف عن محدوديتنا (رأس المال الوجودي لفهم أنفسنا ككائنات مغمورة في بحر من الاحتمالات)، ولا يفعل شيئًا سوى الإلهاء الدائم ("الفوضى")، وهو أمر ضروري للغاية لإبقائنا أسرى إلى ما لا نهاية، في دائرة من الاستهلاك وعدم التفكير المستمر (محرّك الاقتصاديات الجديدة)، الذي من خلال أساليب الحياة الضاغطة، يُبعدنا عن المجتمع ويُفردنا في إيمائية كذبة فارغة تسمى "القرية العالمية".
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا