"الرأس والمال"، عنوان البرنامج الجديد الذي بدأ الإعلامي اللبناني جاد غصن (1986)، بتقديم أُولى حلقاته، قبل أيام، عبر منصة "التلفزيون العربي" على "يوتيوب". بالنسبة لغصن المتخّصص في المسائل الاقتصادية، والذي يعتمد الأسلوب الجديد في ما يُمكن تسميته "إعلام وسائل التواصل الاجتماعي"، تأتي الخطوة في محلّها تماماً، فهو يُتابع الإطار العام الذي يشتغل عليه عبر قناته على "يوتيوب"، والتي طوّرها خلال السنوات الثلاث الماضية، حتى أخذت حلقاتُها شكل "البودكاست" الحواري الطويل.
أمّا بالنسبة للقناة، فهي بدورها تنظر في مواطن الاقتراب من جيل جديد، تحرص على أن تبني معه علاقة لا تقتصر على "الشاشة الصغيرة" وحسب؛ وهذا ليس انفتاحاً في الشكل فقط، فإتاحة برنامج اقتصادي تحليلي، مدّة الحلقة الواحدة منه ما يقرب من النصف ساعة، تعني أيضاً دلالات كبيرة من جهة المضمون.
بسؤال الاستهلاك، بدأ غُصن الحلقة الأولى، مُحاولاً تقديم سردٍ تاريخي، يمتدّ بين حدّين أو مفهومَين، هُما "التسويق" و"التلاعُب". ولمّا كانت هذه الموضوعة مدخلاً عاماً إلى العصر الذي نعيش فيه، ومن الآثار المباشرة التي يلمُسها المستهلكون، وقارئو هذه الظاهرة على حدٍّ سواء، فإنّ الخوض فيها يتطلّب قراءةً فاحصة تستدعي الوقوف عند ميكانيزميات الإنتاج الحديث، والتعريف بأبرز الاقتصاديين والفلاسفة الذين تناولوا الاستهلاك في كتاباتهم.
وهذا ما يشتغل عليه البرنامج، حيث يوطّئ غصن الحديث من خلال مقولات شائعة بين الناس مثل "الحياة سابقاً كانت أفضل"، قبل أن ينتقل إلى عرض مفاهيم من قبيل "إدارة الندرة"، و"إدارة الوفرة"، وأيّها أقرب إلى حياتنا اليوم، مع تحوّلنا من حالة الاستهلاك من أجل العيش إلى العكس تماماً؟
احتفاظٌ بعدّة معرفية رصينة تتجاوز بهرجات وسائل التواصل
كما يعود المُقدّم إلى أسماء مُهمّة في عالَم الدعاية، كالإنكليزي جوزايا ويدجوود (1730 - 1795)، الذي أسّس أوّليات هذه الصنعة "البراندينغ"، في حين كانت المُنتجات بعصر الثورة الصناعية لم تنفجر بعد، وما إنْ حلّ القرن العشرون حتى اختلف الأمر كلّياً، وباتت البشرية أمام حالة طغيان للسلع في الأسواق، والذي لم يعنِ، على الإطلاق، أنها مُتاحة أمام العموم. والنمساوي - الأميركي إدوارد بيرنايز (1891 - 1995)، الذي انتقل إلى مستوى أعلى في التسويق أطلق عليه "العلاقات العامة"، والتي لم تكن في جوهرها سوى تعديل على "البروباغندا" (عنوان كتابه الصادر عام 1928)، على اعتبار أنّ اللفظة الأخيرة قد تكون فجّة بعض الشيء، ولها مدلولاتٌ سياسية - إبّان الصعود النازي حينها - لا تُساهم في انتشارها.
نعود إلى "الرأس والمال"، باستعارة لطيفة عن الكتاب الأشهر الذي وضعه كارل ماركس؛ نعود لنقرأ البرنامج، ضمن تيار الإشارات الذي نسبح فيه كلّنا، بما يتضمّنه من "اقتصاد النقَرات" و"صناعة المحتوى"، حيث لا يُمكن أن نعدّ غصن هُنا "يوتيوبر" أو "مُبسّطاً للعلوم"، وهذه الانتقالة للإعلامي من شاشة التلفزيون الصغيرة إلى أُخرى أكثر لفتاً للانتباه، لم تأتِ على حساب المضمون بل احتفظت بعُدّتها المعرفية.
وهُنا يخطر في الذهن أيضاً، وبمقارنة سريعة، برنامج آخر تبثّه منصة "أنا العربي"، يحمل عنوان "في الحضارة" (يقدّمه محمد السعدني)، الذي يتقاطع على مستوى صياغة المادة المعرفية مع "الرأس والمال"، لكنّه يختلف في الأداء أو طريقة تقديمها للمُشاهد، ربّما لأنّ "اليوتيوب" بالنسبة للأخير، منصتُه الأولى التي تَعرَّف عليه الجمهور مباشرة من خلالها، وليس التلفزيون، كما الحال مع غصن، على ما يعنيه هذا من اختلاف في الأداء والحبكة والديكور وعناصر أُخرى.