بمناسبة مئوية المستشرق اليوغسلافي حسن كلشي (1922 - 1976)، تتالى خلال العام الماضي صدور أعماله المختارة في عدّة لغات، وقد صدر المجلّد الثامن منها أواخر العام الماضي، بينما ستصدر بقية المجلّدات حتى نهاية الاحتفالية بالمئوية في آذار/ مارس المقبل، والتي تُختتم بندوة دولية عنه في العاصمة الألبانية تيرانا. ونظراً لتعدّد اللغات الشرقية والأوروبية التي كان يعرفها المستشرق وينشر فيها دراساته وترجماته، فقد صدرت هذه المجلّدات في عدّة لغات (في الألبانية والصربوكرواتية والعربية)، بينما ستصدر بقية المجلّدات في التركية واللغات الأوروبية (الألمانية والإنكليزية والفرنسية).
وبسبب تعدّد اهتماماته في تاريخ البلقان خلال الحكم العثماني وانتشار الإسلام والثقافة الشرقية الجديدة في المنطقة وصولاً إلى مشاركة أبناء البلقان في الأدب العثماني، وفي دراساته وترجماته عن الأدبين التركي والعربي، فقد جاءت المُجلّدات الأُولى متنوّعة في عدّة لغات، حيث خُصّص المجلّد الرابع لدراساته المختارة في العربية، بينما جاء المجلّد الثامن الذي أعدّه محمد موفاكو ليستعرض إسهام حسن كلشي في التعريف بالأدب العربي، بما نشره من دراسات وترجمات لا تزال لها قيمتها وراهنيتها.
ممثّل لاستشراق مختلف
حظي حسن كلشي المولود في مقدونيا الغربية بخلفية ثقافية شرقية استمدّها من والده، الذي حفظ القرآن على يده في طفولته، وجدّه الذي كان خريج "مدرسة الفاتح" المعروفة في إسطنبول، ومعرفته بعدّة لغات أوروبية ودراسته في مراكز استشراقية متنوّعة جعلت منه شخصية متميّزة في مجال الاستشراق في يوغسلافيا، التي تأسّست عام 1918، من مناطق كانت تحت الحكم العثماني والنمساوي، واحتضنت أول قسم للاستشراق في البلقان (1926)، على يد المستشرق البوسني فهيم بايراكتاروفيتش (1889 - 1970).
اهتمّ بالتراث العربي ثم توجّه إلى الآداب المعاصرة
ونظراً للتباين في المناطق التي تكوّنت منها يوغسلافيا عام 1918، فقد انعكس هذا على تطوّر الاستشراق في اتجاهات مختلفة. كانت البوسنة التي أصبحت تحت الحكم النمساوي (1878)، سبّاقة بسبب غناها بالتراث الشرقي، وانفتاحها على الاستشراق النمساوي المعروف الذي كان صفوت باش أغيتش (1870 - 1934)، أوّل من درس مناهجه وعاد منه بدكتوراه من "جامعة فيينا". وفي حين أن "مدرسة سراييفو" تميّزت بارتباطها بمحيطها البوسني الغني بالتراث الشرقي، كانت "مدرسة بلغراد"، منذ مؤسّسها فهيم بايراكتروفيتش، أقرب إلى الاستشراق المركزي الأوروبي الذي جعل الشرق موضوعاً لاستعراض سلطته.
انضمّ حسن كلشي إلى قسم الاستشراق في "جامعة بلغراد" عام 1946، وتخرّج منه عام 1951، وبقي فيه مدرّساً للغة العربية حتى مناقشته لرسالة الدكتوراه "أقدم الوثائق الوقفية باللغة العربية في مقدونيا" (1960)، ثم انتقل عام 1965 إلى هامبورغ بألمانيا، حيث قضى سنتين عمّق فيهما معرفته بالمدرسة الفيلولوجية الألمانية المعروفة بانضباطها المعرفي والمنهجي. ومع عودته إلى يوغسلافيا عام 1967، دُعي إلى العمل في "معهد الدراسات الألبانية في بريشتينا"، الذي شهد نقلة نوعية في أبحاثه التي نشرها، ثم انتقل بعد ثلاث سنوات للعمل في "جامعة بريشتينا" التي تأسّست آنذاك، لينضمّ أولاً إلى قسم التاريخ أستاذاً للتاريخ العثماني إلى أن أسّس قسم الاستشراق عام 1973، وبقي رئيساً له حتى رحيله المفاجئ في 19 تموز/ يوليو 1976.
وعلى الرغم من هذه الفترة القصيرة، إلا أن كلشي كان حريصاً على اختيار طاقم العمل من الجيل الشاب، ومنح القسم هوية متميّزة عن "مدرسة بلغراد" و"مدرسة سراييفو"، وتمثّل من ناحية المدرسة الفيلولوجية الألمانية، وتؤسّس من ناحية أُخرى للاستشراق الألباني، لكونه القسم الوحيد الذي كان يدرّس باللغة الألبانية أيضاً. وقد أفلح هذا القسم، الذي يحتفل، هذه الأيام، بالذكرى الخمسين لتأسيسه، بإطلاق جيل جديد من العاملين في الدراسات الشرقية في يوغسلافيا، مثل: فتحي مهديو وأسعد دوراكوفيتش وشمسي أيوازي وغيرهم، الذين تخرّج على أيديهم جيل آخر، تقاعد أو على أبواب التقاعد، مثل: عرفان مورينا وعبد الله حميدي وعيسى ميميشي وسواهم.
الكتاب الذي "ضاع" والكتاب الذي صدر الآن
على الرغم من المجالات العِلمية العديدة التي انشغل فيها حسن كلشي، وأثبت فيها ريادة على مستوى البلقان وأوروبا، كما تثبت الآن أعماله المختارة التي تصدر تباعاً، إلّا أن اهتمامه المبكّر والمتواصل باللغة العربية وأدبها تدريساً وبحثاً ونشراً في عدة لغات بيوغسلافيا (المقدونية والصربوكرواتية والألبانية والتركية)، جعلت منه اسماً معروفاً وأستاذاً مُلهماً لجيل كامل تابع عمله في هذا المجال وأبدع فيه. وكان من تقاليد الجامعة أن تنشر للعاملين فيها كُتباً مرجعية في المجالات المختلفة تفيد الطلاب في دراستهم. وفي هذا السياق، أعدّ كلشي عام 1975، كتاباً بعنوان "الأدب العربي: دراسة ومختارات"، صمّمه ليكون مساعداً لطلّاب القسم، وغيرهم من المهتمّين بالأدب العربي، الذي يستثير الاهتمام آنذاك خارج الجامعة أيضاً.
تشرّب مبادئ الفيلولوجية الألمانية ذات الانضباط العلمي
وأذكرُ أن كلشي كان يتحدّث عن كتابه ويستعجل صدوره، نظراً لحاجة طلاب القسم إلى مرجع من هذا النوع إلى أن رحل فجأة، ليختفي الكتاب بعد ذلك لدى رئاسة الجامعة، مع أن هناك ما كان يشير في الأرشيف إلى تحويله، حسب الأصول، إلى لجنة للنظر فيه قبل تحويله للمطبعة. وفي الحقيقة كان هذا الموقف تعبيراً عن موقف محلّي، يضيق بوجود عالم كبير معروف على النطاق اليوغسلافي والأوروبي، وهو ما اتّضح أكثر بعد وفاته بحجج غير عِلمية.
ولكن طاقم العمل الذي اختاره كلشي للعمل معه في قسم الاستشراق الجديد، تابع مسيرته وحافظ على إرثه، وهو ما تتوّج بإصدار الأعمال المختارة له في عشرة مجلدات بعدة لغات. وفي هذا السياق جاء المجلّد الثامن بهدف إعادة تركيب للكتاب المرجعي عن الأدب العربي الذي قدّمه إلى رئاسة الجامعة للنشر عام 1975 وفُقد بعد رحيله، والذي ينشر الآن لكونه لا يزال راهناً في قيمته، على الرغم من مضي حوالي خمسين سنة على ذكرى كتابه المذكور، سواء لطلبة الدراسات الشرقية أو للمعنيّين بالأدب العربي.
ويمكن القول هنا، إن هذا الكتاب الجديد (320 صفحة من القطع الوسط)، يقدّم صورة واضحة عن المكانة التي شغلها حسن كلشي بدراساته وترجماته الرائدة عن الأدب العربي في لغات يوغسلافيا (الصربوكرواتية والمكدونية والألبانية والتركية). فقد كانت معرفة كلشي بالعربية هي الأساس، ولكن معرفته باللغات الأوروبية (الألمانية والإيطالية والإنكليزية والفرنسية)، أتاحت له أيضا أن يتابع ما نُشر وينشر فيها من دراسات وترجمات عن الأدب العربي، مما جعل لإسهاماته المنشورة في لغات يوغسلافيا قيّمة خاصة، لكونها صادرة عن شخصية غدت مرجعية بالنسبة للأدب العربي.
وتجدر الإشارة هُنا إلى أن أوّل مساهمة لكلشي كانت عام 1951، عندما نشرت له المجلة الأسبوعية المعروفة في يوغسلافيا "نين"، تحت عنوان "من الشعر العربي الكلاسيكي"، ترجمة لمختارات من أشعار ابن الرومي، وأبي نواس، والمتنبي، في اللغة الصربوكرواتية، بينما نشر بعد ذلك بثلاث سنوات، ترجمة لأشعار أبي العتاهية، وأبي نواس، وابن المعتز، وابن الرومي بالألبانية في الملحق الثقافي لجريدة "فلاكا إفلازنيميت".
ويلاحظ أنه بعد ذلك توجّه بقوة إلى الأدب العربي المعاصر، حيث نشر دراسته الرائدة "الأدب المصري المعاصر" في ثلاث لغات خلال عام 1956: باللغة الصربوكرواتية أولاً، في الملحق الثقافي لجريدة "يدينستفو"، ثم بالتركية في الملحق الثقافي لجريدة "برليك"، وبعدها بالألبانية في الملحق الثقافي لجريدة "فلاكا إفلازنيميت". وبعد ذلك نجد أن اهتمامه يتركّز على الشعر العربي المعاصر ما بين 1961 و1965، حيث ترجم لأهم الشعراء العرب في اللغة الصربوكرواتية: أبو القاسم الشابي، وهاشم هارون رشيد، وجبران خليل جبران، ومحمود حسن اسماعيل، وتاج السر حسن، وإيليا أبو ماضي، وعبد الوهاب البياتي، ونازك الملائكة، وأدونيس، وسليمان العيسى، ونزار قباني، وبلند الحيدري، وغيرهم. وفي هذا السياق نشر في مجلة "سافرمنيك" (1965)، باللغة الصربية دراسته "ظواهر جديدة في الشعر العربي المعاصر"، التي كانت أول وأوسع دراسة تعرّف بالحركة الشعرية الجديدة (الشعر الحر)، والتي بدأت عام 1947 مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب.
وفي غضون ذلك كانت علاقة كلشي تتنامى مع مصر وأدبائها، وهو ما انعكس على جهوده في ذلك الحين. ففي عام 1962 نشر دراسة معمّقة باللغة الصربوكرواتية في مجلة "موغوتشنوست"، بعنوان "القصة المصرية الأحدث"، كما أن صداقته الشخصية مع محمود تيمور قد أثمرت عن ترجمته لمجموعته القصصية "مكتوب على الجبين" إلى اللغة المقدونية التي صدرت في سكوبيه 1964، بينما نشر مختارات قصصية له بعنوان "الحاج شلبي وقصص أُخرى" باللغة الألبانية في بريشتينا 1968.
كانت كلّ هذه الجهود لترجمة الأدب العربي إلى اللغة الصربوكراتية تتم في غياب معجم بين اللغتين، ولذلك اجتهد كلشي مع صديقه المصري كامل البوهي، الذي تعلم اللغة الصربوكرواتية خلال عمله مع كلشي في قسم الاستشراق في "جامعة بلغراد"، وعمِلا عدّة سنوات في إعداد معجم صربوكرواتي - عربي، وقدّماه للنشر في القاهرة عام 1966. وكان إنجاز هذا المعجم من مبرّرات اختيار كلشي عضواً في "مجمع اللغة العربية في القاهرة" عام 1967، الذي كان أول وآخر مستشرق من يوغسلافيا يفوز بهذا الشرف، ولكن إصدار هذا المعجم الأول من نوعه تأخّر إلى ما بعد رحيل كلشي، بل إنه لم يصدر في القاهرة بل في سراييفو عام 1988.
أسّس لاستشراق ألباني متمايز عن مدرستي "بلغراد" و"سراييفو"
ومع هذا الاهتمام بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الصربوكرواتية، في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ضمن العلاقات المميّزة بين يوغسلافيا التيتوية ومصر الناصرية، قامت دار النشر البلغرادية المعروفة "فوك كاراجيتش" في عام 1967 بنشر مختارات من القرآن مترجمة إلى اللغة الصربوكرواتية، مع مقدّمة ضافية لحسن كلشي بعنوان "القرآن أعظم أثر في الأدب العربي"، وهي الدراسة التي تُرجمت لاحقاً إلى أكثر من لغة، وأُعيدت طباعتها عدّة مرّات، لما لها من قيمة عِلمية في تعريف الصرب والكروات بالقرآن كأثر خالد عند العرب.
وفي تلك السنة انتقل كلشي إلى بريشتينا للعمل في "معهد الدراسات الألبانية"، حيث أصدر في 1968 مختارات قصصية لمحمود تيمور بعنوان "الحاج شلبي وقصص أخرى"، مترجمة إلى الألبانية، ثم انتقل إلى العمل في "جامعة بريشتينا" في 1970، وأسّس هناك قسم الاستشراق عام 1973، منهمكاً في وضع كتاب مرجعي عن الأدب العربي قدّمه إلى رئاسة الجامعة حيث "ضاع" هناك بعد رحيله.
ومن هنا جاء هذا الكتاب (المجلّد الثامن)، ليضمّ في القسم الأول دراساته عن الأدب العربي، ويشمل في القسم الثاني مراجعاته النقدية لكتب صدرت عن الأدب العربي في عدّة لغات، بينما يتضمّن القسم الثالث ترجماته الشعرية والقصصية من الأدب العربي إلى اللغة الألبانية. ومع أن قسم الاستشراق في "جامعة بريشتينا" الذي أسّسه كلشي، يحتفل هذه الأيام، بالذكرى الخمسين لتأسيسه، وعلى الرغم من صدور مجموعات شعرية وقصصية وروايات كثيرة مترجمة عن العربية، إلا أن اللغة الألبانية لا تزال تفتقد إلى كتاب مرجعي عن الأدب العربي من بداياته إلى أواخر القرن العشرين، وهو ما دفع الجهة الناشرة لأعمال كلشي، ولمناسبة مئويته، إلى تخصيص المجلّد الثامن لإسهامه الرائد في دراسة الأدب العربي، وترجمته إلى اللغة الألبانية تعويضاً عن الكتاب الذي أعدّه عن الأدب العربي للنشر في "جامعة بريشتينا"، و"ضاع" بعد رحيله عام 1976.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري