ثقافويون في الفكر العربي المعاصر... عودة نقدية إلى محمّد أركون

02 فبراير 2024
من السيمنار (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)
+ الخط -

تتشكّل بؤرة الثقافوية عند الباحث السوريّ رشيد الحاج صالح من تسليمها بوجود افتراضات ثقافية مُسبقة بديهية تدمغ كلّ شيء في المجتمع، بوصفها كائناً مستقلّاً متمركزاً حول ذاته، وقادراً على فهم وتفسير مجتمعٍ ما بأكمله.

وهذه الثقافوية العربية وجدت نقداً لاذعاً في دراسة الحاج صالح، مدير تحرير دورية "تبيُّن"، التي قدّمها أول من أمس الأربعاء في سيمنار، عقده "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة بعنوان "الثقافوية في الفكر العربي المعاصر: أركون نموذجاً" وقدّمه هاني عواد، وعقّبت عليه أستاذة الفلسفة إليزابيث سوزان كسّاب.

وفي دراسته، يسائل الباحث جملةً من المفكّرين الذين يُدرجهم في هذا الحقل الثقافوي، مثل محمد عابد الجابري، وحسين مروّة، وجورج طرابيشي، وحسن حنفي، وطه عبد الرحمن، ووائل حلّاق، لكن ضيق وقت السيمنار جعله يختار المفكّر الجزائري محمد أركون نموذجاً.


جامع مشترك

هؤلاء المفكّرون كما يُحاجّ المحاضِر، رغم أهمية طروحاتهم، ورغم أنهم لا يُوضعون في صورة اختزالية واحدة، إلا أن انتماءهم جميعاً لما يراها ثقافوية سمح بأن يستنبط جامعاً مشتركاً بينهم، ألا وهو إرجاعهم مشكلاتنا المعاصرة بشكل مركزي إلى الثقافة، وبالتالي إجبارنا على العودة إليها حتى نستطيع حلَّها.

تبحث الثقافوية في حقول بعيدة عما يستفزّ بُنية السلطة

هذا سيؤدّي إلى خلاصة أثارت نقاشاً واسعاً في المكان، ومفادها أن الثقافويين يتجاهلون السياسة، معتقدين أن الوضع السياسي الراهن ليس هو ما يُفرز هذه المشكلات العربية والإسلامية المعاصرة.

بل أكثر تحديداً في نظر الحاج صالح يبدو الخوف من السياسة هو ما دفع البعض منهم إلى منطقة بحث بعيدة عن الانخراط السياسي المُكلف عندهم، حتى أن المفكّر المغربي طه عبد الرحمن يتبنّى دعوة صريحة بالبُعد عن السياسة وترْكها لأهلها والتفرّغ للعبادة والزُّهد، لأن السياسة تؤدّي إلى القتل والتدمير والصراع بين الناس.


هروب من السياسي

نكسة حزيران/ يونيو 1967 كانت مثاله الساطع على انسداد أُفق التعبير السياسي في نقد الهزيمة ومسبّبيها، وبالتالي "هروب" طائفة من المفكّرين إلى الماضي والتراث، حيث تبدأ مشكلتنا من التراث، مثلما يبدأ الحلّ منه، بتثويره وتجديده وفهمه فَهماً معاصراً، كما يُردّد المفكّر الجزائري محمد أركون.

وعليه عاين الباحث هذه المشاريع التي ستتوالد بعد النكسة، فإذ بها مشاريع فكرية فوقية أوجدت مشكلات مفترضة وركّبتها على الواقع، فأصبحت مشكلة العرب لا تُحل إلّا عبر "نقد العقل الديني" كما عند أركون، أو "نقد العقل السياسي العربي" كما يقول الجابري، أو الكشف عما يسمى "سُبات العقل الإسلامي" كما عند جورج طرابيشي، أو بتجديد علم الكلام كما يرى حسن حنفي.

بعد هزيمة 1967 هرب عدد من المفكّرين إلى نقد التراث

إذن، بدلاً من  قراءة الوضع السياسي الراهن، وبدلاً من قراءة التاريخ بوصفه تحوّلات، يلاحظ المحاضِر زعم الثقافوي بوجود عقل سياسي وأخلاقي عربي جامد لا يُعطي للسببيّة والمنطق الدَّور الذي يستحقّ، ومتوجِّس شرّاً من كلّ جديد ومختلف.


قوالب جامدة

استعرض الحاج صالح من هذه الزاوية ما قال إنها قوالب جامدة تبنّاها مروّجوها وما زالت على حالها إلى اليوم، فهي عند الجابري جامدة منذ ألف عام، وعند أركون منذ سبعمئة عام، وعند حسن حنفي منذ ألف ومئتي عام، وهي جميعها تخلق أوهاماً تضخّم من دور الثقافة والتراث، على حدّ قوله.

ستتوالى أربعة عقود صدرت فيها كتُب ضخمة تجاهلت فيها الثقافوية العربية السياسةَ، وهو ما يُفسّر عطالتها وعدم فاعليتها وقدرتها على التأثير في هذه العقود، مثلما رصد الباحث ذلك بصورة واضحة في تعامل الثقافوية العربية مع الأحداث الكبرى كما في الربيع العربي أو نكبة غزّة اليوم.


علمنة العقل

وبخصوص نموذج أركون الذي جاء في الثلث الأخير من المحاضرة، تناول المُحاضِر أطروحاته حول نقد العقل الإسلامي، ومنها ضرورة علمنة العقل الإسلامي عن طريق تطبيق المناهج الغربية الحديثة في العلوم الإنسانية، وجعل اللّامُفكّر فيه شيئاً يمكن التفكير فيه داخل الفكر الإسلامي المعاصر، أي نزع هالة القداسة عن قضايا لم تكن بهذه القداسة في بداية الإسلام.

وأورد الحاج صالح أن أركون يردّد دائماً في كلّ كتبه أن نجاح الحركات الأصولية المعاصرة لا يعود إلى صحّة أطروحاتها وتفوّقها الفكري، بل إلى العصور السابقة التي تقف وراءها وتغذّيها وتخلع عليها المشروعية، وهي عصور تمتاز بالجمود العقائدي والتفسير الغيبي وأخلاق الطاعة والتصوف.

أما قراءة أركون للحداثة الغربية، فقال إنها في جانب منها تأتي من تقديره لها، متطرّقاً إلى ما يسميه "الفوات التاريخي أو الحضاري" بين أوروبا وحضارتها من جهة، والمسلمين من جهة أخرى، وهذا يشمل اهتمامه بما يعتقد أنه مقاومة إسلامية عربية للحداثة الغربية وقِيمها.


ملامح ثقافوية

والملامح الثقافوية التي يقرأها المحاضر عند أركون تتمركز حول التراث بوصفه المشكلة والحلّ، واعتقاده بأن علمنة المجتمع يمكن أن تنجَز بمنأى عن السلطة السياسية ونقدها. لذلك يقدّم إشكالية العلمانية على إشكالية الديمقراطية، بينما "هو يعرف أكثر منّا" أن الدين في أوروبا لم يكن عائقاً حقيقياً عندما أخذت الشعوب الأوروبية تتطلّع إلى تغيير أنظمة الحكم  في بداية العصر الحديث.

كما لاحظ المحاضر غياب دور الفرد المسلم والعربي عن مشروع أركون الفلسفي (وهي صفة تلازم غالبية الثقافويين العرب كما قال) قد يكون بتأثير من إميل دوركهايم والفكر الفرنسي البنيوي عموماً، لجهة أن دور المجتمع أساسي والفرد تابع لقيم هذا المجتمع.

وانتهى إلى القول إن الثقافوية عند أركون وآخرين وهي تدير ظهرها للسياسة إلا أنها ليست بريئة سياسياً، مع ملاحظة أن النظام السياسي العربي رحّب بها، ما دامت تبحث في حقول بعيدة عما يستفزّ بنيته السلطوية المباشرة.

وبهذا المعنى يصعب تحليل الثقافوية إلا عبر العلاقة المستبطنة بالسياسة، والباحث هنا يستهدف بدراسته فحص المكانة اللائقة للواقع وللفعل السياسي المنهَكين، والنظر في الثمن الذي تدفعه الثقافوية نتيجة خشيتها من السياسة، لا سيما وقد لاحت في الأفق منذ بضع سنوات موجة ثقافوية جديدة تبني سرديتها على أن المأزق الكبير الذي عانته مسارات الربيع العربي يعود في النهاية إلى أسباب تتعلّق بثقافة المنطقة.

المساهمون