قبل أن ينتهي عام 2022، شكّلت وزيرة الثقافة الأردنية لجنة برئاسة أمين عام الوزارة لـ"مراجعة جميع الرِّوايات والأعمال الأدبيَّة، التي تدعم الوزارة إصدارها من خلال مشروع مكتبة الأُسرة، ومنع أيّ محتوى دخيل لا يراعي هذه القيم ولا يتناسب مع الهويَّة الثقافيَّة الأردنيَّة"؛ قرار أتى عقب معركة خاسرة خاضتها الوزارة بإجراءات تخالف القانون والعمل المؤسسي، وتنتهك حرية الرأي والتعبير أيضاً.
الوزيرة لم تتمكّن من الردّ على اعتراضات عدد من أعضاء "مجلس النواب" حول وجود رواية "ميرا" للكاتب الأردني قاسم توفيق ضمن منشورات "مكتبة الأسرة"، والتي اتهمها البعض بأنها تحوي عبارات خادشة للحياء وإيحاءات جنسية، وعجزت عن وضع الأزمة في سياقها المناسب، الذي يفترض النظر في هذه الاعتراضات عبر إحالتها إلى اللجنة العليا لمكتبة الأسرة والاستماع إلى تقرير أعضائها الذين أجازوا نشر الرواية المذكورة، واتخاذ قرار يتوافق مع المعطيات الموجودة، بدلاً من الخضوع لخطاب شعبوي ترفعه "نخبة" سياسية جديدة تواصل صعودها في الأردن والعالم العربي عموماً.
نخبةٌ أفرزتها سياسات اقتصادية وأمنية بدأت منذ ثلاثة عقود، أفرغت الدولة العربية من كلّ أُطرها الحزبية والمدنية والاجتماعية، وسط استمرار عمليات الخصخصة التي انتهت بهيمنة الأمن على مؤسسات الدولة، والتي فقدت هيبتها وفعاليتها وإنتاجيتها، متحالفة مع رجال الأعمال الجُدد الذين تعنيهم حرية الأسواق فقط غبر مكترثين بالحريات الشخصية والمجتمعية.
اختُتم العام بتشكيل لجنة رقابة على جميع منشورات الوزارة
استطاعت هذه "النخبة" - التي تغيّب الثقافة والآداب والفنون عن أولوياتها تماماً - أن تكسب المعركة بسهولة وأريحية، بعد أن تنصّل أعضاء "لجنة مكتبة الأسرة" من مسؤولياتهم بالتراجع عن اختيارهم "ميرا"، والادّعاء أن أيّاً من هؤلاء الأعضاء قد قرأ الرواية، وأن ترشيحها أتى تقديراً لشخص كاتبها الذي تمتدّ تجربته الروائية إلى أكثر من ثلاثة عقود.
اللجنة اختارت تقديم استقالتها بدلاً من تصحيح خطئها بإعادة قراءة الرواية، ووضع تقرير يستند إلى معايير مشروع مكتبة الأسرة في انتقاء المضامين الأدبية والفكرية، وليس خضوعاً إلى "فتاوى" سياسية همّها تحقيق رضا شعبي في معارك مجانية، ولم تتوقّف المسألة عند هذا الحدّ حين قرّرت الوزيرة تقديم مزيد من التنازلات خوفاً وتحسباً من الطرف المقابل، فأوعزت بتشكيل لجنة رقابية التزمت بـ"سحب جميع الأعمال التي لا تتوافق مع قيم المجتمع الأردني وعاداته وتقاليده، ومبادئ الأمَّة وقيمها".
تنازلت الوزيرة عن مفهوم المؤسسة ودولة القانون الذي يعني العمل ضمن تشريعات وأعراف مهنية، وهي التي خرجت إلى الإعلام منذ تولّي منصبها قبل حوالي عام، عشرات المرات، للتأكيد أنّ الحرية في الأردن سقفها السماء، وأن الثقافة الأردنية مبنيّة على التعدّدية والتنوّع الاجتماعي والفكري، وفضّلت التسليم بكلّ هذا وذاك من أجل التمسّك بحقيبتها.
مفارقة أن تُسحب رواية "ميرا" من الأسواق، وتنساق الوزارة إلى وضع رقابة مُسبقة على إصداراتِها بما يخالف النصوص الدستورية، بينما ينظّم رئيس وزراء أردني مثل هزّاع المجالي مهرجاناً فنياً للغناء والرقص في خمسينيات القرن الفائت، ويردّ على أصوات معارضيه المحافظين، حينها، بكلمة واحدة: "ابنتي تشارك في أحد عروض المهرجان".
تعجز الوزارة عن تمثيل الثقافة بوصفها مرتكزاً للتنمية
المعركة التي أدار الظهر لها السواد الأعظم من الكتّاب والمثقفين الأردنيين، بمن فيهم كاتب الرواية قاسم توفيق الذي لم يصدر عنه شيء حتى اللحظة، تستدعي التساؤل حول جدوى وجود وزارة الثقافة، التي تبرع بتحويل مشاريعها الاستراتيجية إلى مجرّد فعاليات عابرة تنزع عنها جوهرها الحقيقي وإمكانية استدامتها، وخير مثال على ذلك التدهور الكبير في العناوين التي قدّمتها "مكتبة الأسرة" خلال الأعوام السابقة، عبر اختيار أعمال ضعيفة في بُنيتها الفنية أو منهجيتها البحثية وتركيزها على مواضيع تقترب من منظور السلطة، أو لا تراعي التنوّع الحيوي في الدراسات الثقافية، ليفقد المشروع أساس وجوده المتمثّل بتوطين القراءة بين أفراد الأسرة بإصدارات يباع كلّ منها بأقل من نصف دولار.
وبالمثل، تعاملت الوزارة مع المهرجانات المسرحية التي اختزلت الفن الرابع منذ تأسيسها قبل نحو ثلاثة عقود بتظاهرات موسمية معزولة عن الجماهير، بدلاً من تأسيس مسرح دائم (ريبرتوار)، وفرقٍ وطنية تتنافس فيما بينها، طوال العام، من أجل انتخاب أفضل العروض التي يجب أن تذهب إلى المهرجانات.
كما فشلت في الإعداد والتحضير لتظاهرة "إربد العاصمة العربية للثقافة 2022"، التي غابت عنها أيّة إصدارات مهمّة كان مأمولاً نشرها خلال العام الجاري، وفشل برنامجها في استقطاب الناس من أجل الاستمتاع بأنشطة ثقافية تُحاكي ذائقتهم، وعجز أيضاً عن التعريف بإربد؛ المدينة الثالثة في البلاد، التي لا تحظى بأيّة مكانة سوى في كتُب التاريخ.
ولا يمكن تجاوز تدخّلات الوزارة بـ"معرض عمّان الدولي للكتاب"، الذي لم تسع بجدّية لمأسسته من خلال الضغط على الحكومة لتوفير مكان دائم لانعقاده أسوة ببقية المعارض العربية، وأن تدعم بقوّة إنشاء إدارة مستقلّة للمعرض من دون فرض أيّة وصايات عليها، كما فعلت في إضافة أو شطب فعاليات من البرنامج الثقافي في الدورة السابقة، وأن تعي الوزارة أيضاً أن تقديم 10 - 15 ألف دولار سنوياً للمعرض لن يحقّق دعماً حقيقياً لصناعة الكتاب والنشر.
اختُزل المسرح الأردني بتظاهرات معزولة عن الجماهير
وانسحبت وزارة الثقافة مثلها مثل وزارات أُخرى من الجدل الدائر حول "مشروع قانون حقوق الطفل الأردني"، قبل نحو خمسة أشهر، بين تيارات توصف بأنها ليبرالية وأُخرى محافظة، بدلاً من تأكيد الأثر المرجوّ في تحقيق العدالة الاجتماعية لفئات مهمّشة، لا يجد أطفالها رعاية ثقافية وكذلك صحية ونفسية وتعليمية واجتماعية، من خلال حقّهم في المشاركة بالتجمعات والنوادي الثقافية ومشاركتهم في تحديد البرامج الثقافية والفنية والعلمية وتنفيذها.
تعجز الوزارة عن تمثيل الثقافة بوصفها مرتكزاً أساسياً للتنمية، ليس لأنها لم تنفّذ العديد من البرامج التي وضعتها في أول خطّة أقرّتها عام 2006، وتتعلّق بالأرشيف الوطني أو تأسيس دار للنشر والترجمة أو صندوق لدعم الوزارة، أو في تفريغ مشاريع مثل التفرّغ الإبداعي أو مكتبة الأسرة أو مدن الثقافة الأردنية من مضمونها، وتحويلها إلى مواسم احتفالية شكلية.
هل ما زال الأردنيون بحاجة إلى وزارة الثقافة؟ سؤال ليس اعتباطياً، إنما يستحقّ التدبّر والتفكير في ظلّ عجز المؤسسة الرسمية كمّياً عن تعميم الثقافة ونتاجاتها لجميع المواطنين، أو نوعياً في تطوير وعي المجتمعات عبر استيعاب تراثها من جهة وترسيخ حداثتها من جهة أُخرى. آن الأوان للاعتراف بأن هذه الوزارة عبء على الثقافة الأردنية التي يعبّر عنها فقط أفراد مبدعون خارج أية أُطر جماعية، وأن إلغاءها يخفّف الكثير من الخسائر والأخطاء التي يقوم بها وزراء تأتي بهم حكومات غير منتخبة، ويفتقرون إلى المهنية والاحتراف، ويهدرون المال العام من خلال توزيعه على شكل هبات ومكرمات لا تصنع ثقافة ولا ما يحزنون.