منذ هجَمات 11 أيلول/ سبتمبر في نيويورك، وما تلاها من جرائم أميركية في العراق، ومِن قمعٍ رافق ثورات الربيع العربي، ومن ظهور الجماعات الدينية المتطرّفة، إلى انفجار مرفأ بيروت العام الماضي، تعود إلى الواجهة، بين حينٍ وآخر، مفاهيمُ مثل: الشرّ، الشيطان، الجحيم. هذه المفردات، المستمدّة من القاموس الميثولوجي، الديني، تحضر بكثافة في القاموس السياسي والاجتماعي اليوم. وفي هذا الإطار، يكتب ريتشارد ج. بيرستاين أنّه يجب علينا مقاومة ذلك الإغراء الذي يدعونا إلى رؤية الشر باعتباره "سِمةً أنطولوجيّة ثابتة للشرط الإنساني"، لأنّ هذا سيعني ــ كما يعلّق تيري إيغلتون ــ الاعتراف بعدم قدرتنا على فِعل شيء ما حيالَه.
يفتتح إيغلتون دراسته "عن الشر" (دار نينوى) بعالم الطفولة، عائداً إلى رواية "أمير الذُّباب"، لويليام غولدينغ، التي تتخيّل حياة مجموعة من الأطفال، معزولين في جزيرة. وتدرس الرواية احتمالات الشر التي قد تقع بينهم. كما يعود إلى فيلم "طارد الأروح الشريرة"، لويليام فريدكين، الذي يقترح وجود طفلةٍ خارقة تمتلك نوازع شريرة؛ وهو فيلم يطرح السؤال التالي: هل الشيطان القابع داخل الطفلة يمثّل جوهرَها الحقيقيّ، أم أنّه دخيلٌ عليها؟ وأخيراً، يناقش إيغلتون موضوع الشر والطفولة عبر حادثة حقيقية حصلت في بريطانيا قبل 15 عاماً. تروي حكاية الجريمة قيام طفلين، يبلغان من العمر عشر سنوات، عمداً، بتعذيب وقتل طفل يصغرهما سناً. لا يخفي المفكّر الإنكليزي سخطه من الرأي العام الذي ينظر إلى هذين الطفلين كشرّيرَيْن، من دون معرفة وتحليل الأسباب التي دفعت إلى الجريمة.
ليس تركيز إيغلتون على علاقة الشر بالطفولة إلّا مدخلاً للتساؤل عن أصل الشر وعلاقته بالطبيعة الإنسانية: هل يُولَد البشر أشراراً أم أنّ البيئة والثقافة تنمّيان الشرّ في سلوكهم؟ يكتب مترجم الكتاب إلى العربية، عزيز جاسم محمد: "هنا يطرح المؤلف اتجاهين مختلفين في تفسير الأعمال الشرّيرة وأسبابها: الأوّل، الذي تبناه البُنيويّون الليبراليّون، يعزو سبب الشرّ إلى الدوافع البيئية المتمثّلة في الظروف الاجتماعية. أمّا الثاني، الذي تبنّاه السلوكيّون المعتدلون، فينصّ على أن هنالك مؤثرات في الشخصية تتحكّم بسلوك الفرد، ولها تأثير كبير على شخصيّته".
ينتج الشرّ عن أفعال إرداية، كما يمكن أن يكون نتاجاً للجهل أو نقص المعرفة. عن الشر الإرداي يكتب كانط: "نحن مسؤولون عن أفعالنا تماماً"، ويقول ريتشارد الثالث في مسرحية شكسبير: "أنا عازم على أن أبرهن أنني وغد". فيما لا تُخفي إحدى شخصيات "الفردوس المفقود"، لجون ميلتون، رغبتها: "أيها الشرّ، لتكن خيري أنا". ويتفاخر غوتز، في مسرحية "الشيطان والإله الطيّب"، لجان بول سارتر، بعلاقته بالشرّ: "أقوم بأعمال شرّيرة من أجل الشرّ".
يرفض إيغلتون القول بأن الشرّ سِمة أنطولوجيّة للشرط الإنساني
في المقابل، تخلص دراسة حنة أرندت، "آيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر"، إلى أنّ المدير التنفيذي النازي، المسؤول عن إيجاد حلّ الإبادة الجماعية، لم يكن شخصيّة شيطانية تتبنّى الشرّ عن وعي، بل شخصاً "مجرّداً من الفكر"، وهذا ما جعله واحداً من أعظم المجرمين المعاصرين. هكذا، يصبح الشرّ أقرب إلى أفعالٍ بشريّة نُزع عنها المعنى وباتت مجرّد حركاتٍ مادية. وهذا يشابه آلية مأسسة التعذيب في السجون العربيّة، حيث ينبني على أساس قيام كلّ موظف بدوره؛ فالجلاد ليس إلّا آلة ميكانيكية في يد النظام القمعي الذي يحدّد له دوره.
في مسرحية "الناجي"، لإدوارد بوند، نجد مجموعة من المراهقين يرجمون طفلاً في مهده حتّى الموت. الغرض من هذه الحكاية إظهار النحو الذي يمكن من خلاله ليافعين يشعرون بالملل المزمن ارتكاب فظائع كهذه، من دون أن يكونوا أشراراً في أعماقهم. هنا، تظهر مرّة أخرى علاقة الشرّ بغياب المعنى، لكن من زاويةٍ أخرى. ويمكن، في أحد التأويلات، القول بأن المراهقين في مسرحية بوند جعلوا لأنفسهم معنىً ما عبر ارتكاب المحظور. يقول سورين كيركغارد، في كتاب "المرض حتّى الموت": "يريد اليأس أن يُثبت وجوده عن طريق كراهيّته للوجود. يقدم الشر نفسه كشهادة حيّة على حماقة الخلق".
في رواية "بنتشر مارتن" لويليام غولدينغ، يجثم مارتن داخل جسده كما لو أنه منفصلٌ عنه؛ يُحرّك أطرافه كما لو أنه رجل جالس داخل رافعة يحرك أذرعها. يبدأ الشرّ بالظهور عند الانفصال بين الجسد والروح، بين الإرادة الساعية إلى السيطرة والتدمير، والجسد الذي لا معنى له. هكذا، يتجاهل مارتن، في الرواية، حقيقة وجود الآخرين، كما أنه يتعامل مع جسده كما لو كان جسدَ شخص آخر، ومع أجساد الآخرين باعتبارها مجرد وسائل ميكانيكية لإرضاء رغباته. يبرز الشرّ حين يتعامل الإنسان مع جسده أو مع أجساد الآخرين على أنّها مجرد أشياء لا قيمة لها.
وتربط رواية "السقوط الحر"، لويليام غولدينغ أيضاً، بين الحرية الإنسانية وبين أفعال الشر، لأن قوة الإنسان الإبداعية، وقوّته المدمّرة، تنبعان من المصدر نفسه. هنا، يحيل إيغلتون إلى هيغل، الذي رأى أنّه كلّما ازدادت الحرية الفردية، كان الشرّ في حالة نشاط. ويعلّق إيغلتون: "الخطيئة الأصلية نتاجٌ تقليدي عن فعل الحرية، حرية اختيار تناول التفاحة". ويكتب سلافوي جيجيك: "الشرّ شيءٌ يهدّد بالعودة إلى الأبد. إنّه البعد الطيفي الذي ينجو بشكل سحري من الإبادة الجسدية ويستمر في ملاحقتنا". ورغم أن جيجيك يعتبر وجود الشر مستمرّاً ولانهائياً في السلوكيات الإنسانية، إلّا أنه يعتقد أنّ الخلود مرتبطٌ، رغم ذلك، بالخير. أما في رواية "صخرة برايتون"، لغراهام غرين، فتُعرَض الطرائق المتعدّدة التي يترابط فيها الخير والشر في ألفة سرّية بينهما، وفي اشتراكٍ بالعديد من السِّمات.
يقوم المؤلّف الموسيقي أدريان ليفركوهن، في رواية "دكتور فاوستوس"، بإبرام عقد مع شيطان الإلهام، ينصّ على أن يوافق الموسيقي على الإصابة بداء الزهري مقابل مساعدة قريحة الإلهام الشيطانية على وضعه أعمالاً موسيقية خالدة. وصول ليفركوهن إلى المجد (الموسيقيّ) الذي يبحث عنه يشترط تدمير نفسه. في قراءته لهذه الرواية، يتوصّل إيغلتون إلى خلاصةٍ مفادها أن على الفنّان الساعي إلى تخليص العالَم عبر قوّة فنّه التجريدية أن يكون على علاقة حميمة مع الشرّ. خلاصة تتّفق مع مقولة ويليام بتلر ييتس بأنّ للفن جذوراً غير محبّبة لأنها تقع "في الجزء الملوّث من القلب". بعبارة أُخرى، على الفنّان أن يتفاهم مع الشر لأنه مطالبٌ بالتعامل مع كلّ الخبرات الممكنة.
يظهر الشرّ حين نتعامل مع أجسادنا وأجساد الآخرين باعتبارها أشياءً
وإن تَمَثَّل الشر، في رواية "دكتور فاوستوس"، بتدمير الذات، فإنّ مصّاص الدماء من ناحية، وشخصية ياغو في مسرحية "عطيل"، لشكسبير، من ناحية أخرى، يعطيان مثالين حديثين عن الشرّ باعتباره إشباعاً للذات عبر تدمير الآخر بشكل ممنهج. وعلى المستوى الأيديولوجي، تجتمع الأنظمة الشمولية القمعية مع الحركات المتطرّفة في ممارسة إبادة الآخر لإثبات الوجود.
ينتقد إيغلتون أطروحةَ ريتشارد ج. بيرستاين، في كتابه "الشر الراديكالي"، القائلة بأن تدمير مركز التجارة العالمي عام 2001 يمثّل خُلاصة الشرّ في عصرنا. وهو يحاجج، ضدّ هذه المقولة، بأنّ الولايات المتحدة قتلت، وبشكل لا يمكن تصوّره، عدداً أكبر بكثير من المدنيين الأبرياء منذ منتصف القرن الماضي. ويرى إيغلتون أن تعريف "الإرهاب الإسلامي" بوصفه شراً، يتأتّى من رفض الاعتراف بالمظالم التي عانى منها المجتمع الإسلامي داخل النظام العالمي، وبأن هذا العنف قد يكون نتيجة ممارسات ظالمة وقمعية واجهتها المجتمعات المسلمة طيلة عقود.