هل صار التنوير العربي، أو عصر النهضة العربي مُريباً، وقابلاً للنفي، وقليلَ الشأن، ويفتقر إلى الأصالة، ومرشّحاً للنفي والطرد من جدول أعمال التاريخ العربي الحديث إلى درجة أن يوضع من قبل بعض المثقّفين العرب بين قوسين صغيرين؟
هذا ما يحدث اليوم في حقيقة الأمر، ومن بين نشاطات الريبة، والمُرتابين في قيم التنوير العربي، ثمّة من يشكّك أيضاً، ويرغب في طمس حقيقة أنّ عقد الثورات العربية، الذي مضى، قد حمل في طياته، بعيداً عن شعارات إسقاط الأنظمة الحاكمة، روح التنوير أيضاً.
والتنوير كلمة كبيرة ومهابة، لأنّها ترتبط بالنهضة الأوروبية، وبما هو حاصل في أوروبا من تقدُّم على جميع المستويات الفكرية والتكنولوجية. ولكنّ العودة إلى المقالة التي أجاب فيها إيمانويل كانط عن سؤال "ما التنوير؟" تعيدنا إلى الواقع، بعيداً عن ضخامة المهام التي يمكن أن تكون في انتظار من يتولّى حمله. إنّه يقول بكلّ بساطة إنّ التنوير يعني الاعتماد على العقل في فهم العالم من حولنا، نبذ الكسل العقلي، والانقياد وراء الآخرين دون تفكير. وبهذا المعنى يُمكن لعقد الثورات العربية أن يفخر بنفسه، لأنّه استطاع أن يحرّر مئات آلاف العقول من التبعية السياسية والفكرية. والحرية في التفكير واحدة من أهم قيم التنوير بحسب كانط أيضاً.
صاحبَت الثورات مساع تنويرية حاولت إعادة النظر في المفاهيم السائدة
والفارق بين عصر النهضة العربي وبين عصر الثورات العربية فارق في النوع وفي الكم، إذ بينما كان التنوير هناك مسعى ينهض به أفراد في مجالات متعدّدة، غدا اليوم عملاً جماعياً تتبنّاه أعداد كبيرة من الناس معاً، وبينما كانت أسماء المنوّرين معروفة في عصر النهضة، ينخرط في العملية اليوم عشرات آلاف الأفراد الذين تصعب معرفة أسمائهم.
ولا أجد مسوغاً لإنكار أنّ العقد الماضي الذي شهد انطلاق الثورات العربية، وانطفاءها، واحدة بعد أُخرى، أو هزيمتها، قد صاحبته جملة من المساعي التنويرية التي حاول أصحابها أن يعيدوا النظر في كثير من المفاهيم السائدة، أو يعيدوا تركيب مفاهيم جديدة في السياسة، وفي العلاقات الاجتماعية، وفي شؤون تحرُّر المرأة، وفي مسائل الثقافة، وفي قوانين الأحوال الشخصية، وفي شؤون الحق والواجب، وفي المسائل الدستورية، إذا كانوا لم ينجحوا في صياغتها كقوانين في الكتب، فقد تمكّنوا من جعلها طرائق في حياتهم اليومية.
فلا يستطيع أحد أن ينفي أن السوريّين أو المصريّين أو التونسيّين أو اليمنيّين أو العراقيّين في نهاية القرن العشرين، ما زالوا هم أنفسهم في بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. صحيح أنّ من الصعب قياس التغيير الذي حصل، ولكن ليس من الصعب ملاحظته، فطبيعة النقاشات الحرّة التي تتّسم بالشجاعة والانفتاح على كل القضايا الحياتية، والوجودية، والفكرية، وإن تخلّلتها في كثير من الأحيان الحدّة والهيجان العاطفي، تؤكّد نجاح الثورات الجزئي، رغم عجزها عن أن تتحقّق.
غير أنّ العلامة الأكبر التي تشير إلى ما تحقّق بعيداً عن سقوط الأنظمة هي دخول النساء في الشأن العام، وفي العمل المدني، وفي سوق العمل، وقدرة الآلاف منهنّ على تقرير مصائرهنّ بأنفسهنّ بعيداً عن أيّ وصاية.
* روائي من سورية