استمع إلى الملخص
- رواية "تفصيل ثانوي" تسلط الضوء على حادثة اغتصاب وقتل فتاة فلسطينية في عام 1949، وتعبر عن الألم الفلسطيني المستمر باستخدام رموز مثل نباح الكلاب والصحراء.
- تعكس الرحلات في الأدب الفلسطيني البحث عن الذات والتفاصيل المؤلمة في تاريخ فلسطين، كما في أعمال غسان كنفاني ومحمود درويش، مؤكدة على حق الفلسطينيين في العيش بكرامة.
أقرأُ بين الفينة والأُخرى عن نداء من الكتّاب الفلسطينيّين وغيرهم لتدوين وتوثيق ما يحدث في غزّة أدبياً، أي من خلال كتابة روايات وقصائد وغيرها، وهذه النداءات صادقةٌ في نيّتها في التفاعُل مع أحداث تجعل الولدان شيباً، حسب التعبير القرآني.
ربّما يستطيع الشعر التعبير عن الأحداث والتفاعُل معها، لكنّ الرواية تختلف، حيث البنية والنفَس السردي الطويل عن الشخوص وعلاقاتهم يحتاجان رؤية تتجاوز الحدث زمنياً، ما أمكن، لتتّضح الرؤية، وإن كان ثمّة روايات خرجت من رحم الثورة السورية والمأساة العراقية وغيرهما وأحسنت التفاعُل مع أحداث جسيمة مستمرّة.
ومع هذا، لا أعرف إن كان بمقدور الرواية خصوصاً أن تُجاري أحداثاً وقصص عذابات وأهوال بشرية فلسطينية من نوعٍ قيامي لا تنتهي في غزّة. ربّما قليلةٌ هي الروايات التي تَكتب الحدثَ الجلل بينما هو واقع. أغلب الروايات التي تتناول أحداثاً جسيمة تأتي غالباً بعد الحدث، وإن استمرّت آثاره، فمِن "الحرب والسلام" لتولستوي وتناوله غزو نابليون لروسيا، إلى روايات غسّان كنفاني، التي يقع غالبها بعد الحدث التي تتناوله.
وهنا تخطر في بالي رواية عدنية شبلي "تفصيل ثانوي"، وهي رواية تأتي بعد عقود طويلة من الحدث الرئيسي فيها، والذي تُبنى حوله، لتُرينا بشاعة الصهيونية، بينما نرى ذروة قذارتها ووحشيتها في غزّة وعموم فلسطين. وربّما هذا ما سيحدث مع غزّة، مع أنّني أتفهّم محاولة الكُتّاب الغوص والعيش في أتون المأساة من خلال روايات تجعلهم يعيشون الحدث، لأنّ الصمت ورؤية الأخبار من دون القدرة على تغيير أيّ شيء يؤلمان النفس ويجرحان الهوية. أذكُر رواية شبلي مثالاً على رؤية الصهيونية بوصفها مشروع بشاعة من أوّله إلى آخره، وهذه هي رحلة الرواية.
الحقيقة أنّ فلسطين تعيش حالة اغتصاب وقتل مُمنهجة منذ 1948
بهدوء وحكمة وكثير من الصبر والشغف، تقودنا الكاتبة إلى لبّ الحدث الذي يعشّش في ركن من أركانِ الرواية، عابرةً صحراء النقب، حيث يغتصب ضابط إسرائيلي فتاة فلسطينية على وقع نباح كلاب في الخارج. يترقّبها الضابط ويفعل أفعاله مع الفلسطينيّين إلى أن ينفرد بالفتاة في غرفة صغيرة، ويفرض عليها ما يفرض ليفعل فعلته، ثمّ يقتلها ويُلقي بها في غياهب الصحراء. هذا الحدث الذي وقع عام 1949 يتكرّر صداه بأشكال مختلفة في غزّة الآن، وكذلك كثيرٌ من الأحداث المؤلمة في رحلة العذاب الفلسطيني.
الحادثة مزلزلةٌ بما يكفي، وما تقوم به هو تتبُّع خيوطها بالبحث عن الأرشيفات الإسرائيلية التي من المفترض أن تحوي تفاصيلها. تستخدم الراويةُ الحيل والألاعيب كي تصل إلى الأرشيف الإسرائيلي المتعلّق بالحادثة وتبحث أكثر عنها، فتلجأ إلى هوية زميلتها التي تحمل مزايا إسرائيلية تجعلها تتنقّل عبر الحواجز من مدينة رام الله التي تسكنها إلى الداخل الإسرائيلي الملغّم بالشبهات والعقبات.
أن تمرّ بالسيارة من فلسطين إلى ما يُسمى "إسرائيل" يعني أن تعبر حواجز وعقبات كبيرة، والمقصود هنا العبور على محطّات كثيرة من الألم الفلسطيني، على طريقة قرى مهجورة وبيوت مسلوبة، ولكن بطريقة تعيش فيها الراوية وشخصيات الرواية حياة بعيدة عن الصخب والدراما. إنّها حياة عادية في خضمّ تاريخ وأحداث غير عادية وغير طبيعية، تهزّ الروح إلى آخر طبقاتها. لكنّ الكاتبة تتجاوز الألم الآني من أجل المعنى الأعمق والحياة الأكبر. هي الروح موجة لغة تبحث عن ذاتها في انكساراتها الكثيرة وفي انعدام الأفق.
هنا كاتبة بارعة تُسخّر لغتها للحفر والمحاكاة، من خلال رموز وإيحاءات، مثل الكلب ونباحه المتكرّر في الصحراء، والشمس الذهبية، وألوان ملابس الجنود، وأعمدة المراقبة، والنباح المتكرّر الذي يدلّ على حدث جلل. الصحراء لها كلامها وخفّتها وبطؤها، والجنود لهم صخبهم وطاقة الرعب في أفعالهم الرهيبة، والرصاصة التي يطلقونها على الراوية حين تجتاز بعض الحواجز في نهاية الرواية لها صوتها القاتل كنهاية مؤلمة لحلم الوصول، كأنّه يُمنع على أيّ فلسطيني أن يقترب من الحقيقة، حقيقة أنّ فلسطين كلّها تعيش حالة اغتصاب وقتل مُمنهجة منذ عام 1948.
هذا اغتصاب يشمل كلّ أنواع التعذيب والهمجية: من الجسدي إلى النفسي، والذاكرة، مروراً باللغة والتشويش عليها. إنّه اغتصاب لحقيقة فلسطين في قلب كلّ فلسطيني.
وعلى غرار الكثير من الروايات الفلسطينية، تحتوي الرواية رحلة أو رحلات عديدة: رحلة الراوية وهي تبحث عن تفاصيل جريمة على يد البرابرة الجدُد، ورحلة الكاتبة وهي تبحث عن ذاتها في هذه التفاصيل وفي فلسطين الوهم والحقيقة. وهنا نتذكّر غسّان كنفاني ورحلات شخوصه المتعثّرة والمؤلمة من "رجال في الشمس" إلى "عائد إلى حيفا"، وروايات سميرة عزّام ووصفها للقطارات، ورحلات محمود درويش في قصائده الأخيرة مثل "على محطّة قطار سقط على الخريطة".
في الحقيقة، موضوع الرحلات بأبعادها المختلفة لم يأخذ حقّه في الدراسة. والرحلة هي في صميم الأدب العربي القديم والحديث؛ رحلة الضياع أو الانفصال عن المكان أو الحبيبة في الأدب العربي القديم، ثم الالتحام مع الطبيعة وعالم الفرد حين يواجه ما هو غير مألوف وموحش، ثم العودة إلى حضن المجتمع أو القبيلة أو استكمال الضياع والتيه على طريقة ما يسمّى في الأدب الفرنسي "الحياة غير المكتملة"، وعلى طريقة تأبّط شرّاً في الأدب العربي القديم.
أمّا رحلة الفلسطينيّين في رواياتهم، فعادة ما تنتهي بالموت أو بالانتقال إلى مرحلة جديدة من النضال، رحلة يحفّها الألم والمخاطر. صوت عدنية شبلي في هذه الرواية يحملُ أصواتاً كثيرة من روافد أدبية متعدّدة، قديمة وحديثة، وهي بهذا ترسّخ فلسطين، وترسّخ الإنسان الفلسطيني كوريث للألم وللأرض التي يحتضنها وتحتضنه حتّى الموت.
إنّها تقريباً رواية الفلسطيني يبحث في عتمة القهر والظلم عن صوته، وعن تاريخه وتاريخ أهله وأبناء وبنات بلده في تفاصيل الموت والإرهاب اللذين يفرضهما الاحتلال الإسرائيلي على هذا الشعب المواظب على الحياة والأمل بإصرار المؤمن بوطنه وبحقّ شعبه في العيش بكرامة واطمئنان.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن