قبل ساعات من افتتاحه، أرسل "الديوان - البيت الثقافي العربي" في برلين، رسالة موجّهة إلى الضيوف والجمهور، قال فيها: "نأسف لإبلاغك بأن "معرض 'التسامي' لـ ستيف سابيلا، الذي كان من المقرَّر انطلاقه في العشرين من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 قد جرى تأجيله حتى إشعار آخر".
لم تتطرّق الرسالة إلى أسباب تأجيل المعرض، مكتفية بهذه العبارة في ختامها: "نعمل حالياً على تحديد موعد جديد". لكن، لا يمكن النظر إلى هذا التأجيل بمعزل عن انحياز الأوساط الثقافية والإعلامية والأكاديمية في ألمانيا، ومعظم البلدان الأوروبية، إلى "إسرائيل" وروايتها في عدوانها المتواصِل على غزّة منذ قرابة ثلاثة أسابيع.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقف سابيلا (1975)، الذي نشَر رسالة "الديوان - البيت الثقافي العربي" على صفحته في فيسبوك، عند حالة "الخوف لدى المنظّمين من ردّة فعل الصحافة" في حال افتتاح المعرض الذي تُشرف عليه القيّمة ومؤرّخة الفن الألمانية كارين أدريان فون روكس، مُشيراً إلى "حالة الرعب التي يواجها كلُّ من يفتح فمه"، مستشهداً بما حصل مع الكاتبة عدنية شبلي بإلغاء تكريمها في "معرض فرانكفورت للكتاب"، وبما يتعرض له فنانون ومثقفون فلسطينيون أو متضامنون مع فلسطين في ألمانيا الآن.
تدخل ألمانيا والقارة العجوز اليوم "عصر انعدام التنوير"
خشية المنظّمين تُعبّر عن رغبة في تفادي أية مشكلة مع الإعلام الألماني الذي يحصر مجمل القضية في زاوية واحدة تتمثّل في إدانة "حماس"، وهو ما يثير التساؤل حول مستقبل الحريات في الديمقراطيات الغربية، بحسب سابيلا الذي يرى أنه إذا أُخرس المتعاطفون مع القضية الفلسطينية اليوم، سيجري إخراس المتعاطفين مع قضايا تخصّ بلداناً أخرى في الأيام القادمة.
ويضيف: "نعيش بين المطرقة والسندان. ففي المدارس الألمانية يُمنع الطلبة من التعبير عن تعاطفهم مع فلسطين باستخدام أي رمز، كارتداء الكوفية، أو تعليق خريطة فلسطين وعلمها، وهو الفعل نفسه الذي واجهه اليهود في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، في تغافُل تامّ عن أنّ الفلسطيني يعيش تحت الاحتلال الذي يجب أن يُحلّ من جذوره".
"أعبّر طوال حياتي بالفنّ والكتابة الإبداعية"، يقول سابيلا في تأكيده على مواجهة حالة الإقصاء، مشيراً إلى كتابه "معضلة مظلّة هبوط" (2016) الذي كتب تقديمه الفنان والناقد الفلسطيني كمال بُلّاطه، و"لعنة الفنان" (2023)، حيث لا يمكن إلغاء تاريخ كامل من الفن، وإلغاء تاريخ كامل من الرؤية، ومحو قصّة شعب إرضاءً لجهة ما. لذلك لن يستطيعوا إظهار جانب واحد من الرواية، طالما العرب والفلسطينيون منتشرين في جميع أنحاء العالم، ولا يمكن إسكاتهم.
في معرض "التسامي" الذي جرى تأجيله إلى موعد غير محدَّد، أعدّ سابيلا أربعة مشاريع عملَ عليها خلال عام 2020، وكلها ذات علاقة بصرية بفلسطين؛ الأوّل "الأرض الدائمة" الذي يستند إلى مجموعة صور من التطريز الفلسطيني المنسوج على مجموعة واسعة من الأزياء التقليدية التي انتقلت من جيل إلى جيل، ويتضمّن أيضاً تطريزة من نوع جديد احتفاء بفلسطين.
ويحمل المشروع الثاني عنوان "صوت القدس"، وفيه صوّر أفق القدس من كلّ اتجاهاتها (من 360 درجة)، تحاكي تردّد الموجات الصوتية التي تقترب من الصواريخ في حركتها، بينما يجمع المشروع الثالث "في مكان آخر" صوراً بالأبيض والأسود (فوتوكروم) من فلسطين التاريخية في القرن التاسع عشر، مع بعض الصور من سورية ولبنان، جرى تلوينها باليد، وعبر أسلوب الكولاج جُمعت مع بعضها في محاولة لخلق الشعور بالمكان/ فلسطين قبل الاحتلال.
في المشروع الرابع، يعيد سابيلا تحويل مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي كان قد التقطها في فترة سابقة إلى فيديو آرت بعنوان "خروج Exit"، وتتناول الصور أناساً يعيشون في المنفى، في آخر حياتهم، حيث يمنح العنوان تعدّداً في الدلالات بين الخروج أو التحرّر من الجسد، أو من الحياة (الوجود)، أو من الوطن، في تعبير عن نظرة الفنان المقدسي ومعالجته للنضال الفلسطيني ضد الاستعمار، بوصفه صراعاً من أجل الحياة، وليس من أجل الموت.
العرب والفلسطينيون منتشرون في العالم ولا يمكن إسكاتهم
بالعودة إلى المناخ العام الذي يسيطر على القارّة العجوز، يرى سابيلا أن هناك انحيازاً مسبقاً للرواية الإسرائيلية في الماضي، لكن ألمانيا -وأوروبا عموماً- تدخل اليوم "عصر انعدام التنوير" مع الإحساس المتعاظم لدى الناس بأنهم مراقبون في وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يوجد مكان آمن، وأن "المسألة مسألة وقت. متى يجري إخراسك؟".
ويعتقد سابيلا أنّ المرحلة المقبلة ستكون أكثر تعقيداً، خصوصاً أمام الفنان الفلسطيني مع تكريس الخوف لدى الناس، والإلغاء الذي تمارسه الصحافة العالمية، حيث سيقلّ الاهتمام بتجربته، كما سيجري تجنبه في التكريم والجوائز والمنح، ولا حلّ لمواجهة ذلك إلّا بشجاعة وجرأة أكبر من قبل المؤسّسات الثقافية -من دور عرض ومراكز وجامعات- المنحازة للشعب الفلسطيني، بألا تغلّف خطابها بأي قناع، وتمنح الفنّ الذي هو مرآة الحياة مساحته الضرورية والمهمّة، إذ يحتاج الفلسطيني لتحرير مخيّلته حتى يحرّر أرضه.
يصعب هزيمة الفنّانين الفلسطينيّين الذين يزداد عددُهم كلّ يوم، ويتنامى تعبيرهم عن حياتهم في فلسطين، ويستمرّون في تسليط الضوء على الحياة المعدومة على أرض الواقع بفعل الاحتلال. هكذا يقول سابيلا، مُختتماً حديثه لـ "العربي الجديد": "طول ما الفلسطيني يحلم بفلسطين حرّة، لن يستمرّ الاحتلال".