تاريخ عماء ألمانيّ

23 مايو 2021
من مظاهرة تضامنية مع فلسطين في برلين، 19 أيار/ مايو الجاري (Getty)
+ الخط -

علاقة ألمانيا مع "إسرائيل" شديدة التجذّر. العلاقة ليست سياسيّة أو اقتصاديّة، بل هي بنيويّة وتأسيسيّة. في مدارس التعليم الثانوي، يتمّ تدريس تاريخ النازيّة بالتفصيل. التركيز يكون على مُستويَيْن. الأوّل هو أنّ النازية لم تكن انقلاباً عسكرياً أو خطفاً للسلطة، بل كانت تحوّلاً ديمقراطياً يعبّر عن إرادة اجتماعيّة (وهذا صحيح طبعاً). السرديّة التاريخيّة التي هيمنت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، هي أنّ النازية لا تُختصَر بشخص هتلر، بل كانت تكثّفاً نقيّاً لحسّ شعبي تحقّق ديمقراطياً عام 1933. رغم أنّ ألمانيا كدولة نازية تكون "مُشخْصَنة" بهتلر في غالبية السرديات التاريخيّة غير الألمانية، إلّا أنّ السردية الألمانية المهيمنة ترى هتلر تلخيصاً لنزعة اجتماعيّة. 

المستوى الثاني هو المستوى العملي. إذْ يتمّ تناول انتهاكات النازية بالتفصيل، والجرائم التي ارتكبوها بحقّ البشر من خلال إجراء جولات طلّابية مدرسية دوريّة إلى معسكرات الاعتقال وأضرحة الضحايا ومتاحف الحرب. يرى المراهقون جبال أحذية الضحايا في أوشفيتز، وأدوات توشيم الأجساد بالأرقام، وتفاصيل التجارب على الأطفال. تُضاف إلى ذلك عشرات الأفلام الوثائقية التي تتناول الفترة النازية.

النتيجة: إنسانٌ مصاب بعقدة ذنب شديدة، ومدين باعتذار عميق غير مشروط إلى اليهود. ثمّة رغبة بتحويله إلى اعتذارٍ أبديّ أو صِفة بشرية تتوارثها الأجيال. الكاتب الألماني فلوريان إليس "بقّ البحصة" بقوله اللمّاح: "من الصعب أن تكونَ ألمانياً بعد دروس التاريخ... تشعر بأنّ داخلك قنبلة، اكتشفتَها فجأة، ويجب أن يبقى فتيلها منزوعاً". في أحد دروس التاريخ يتمّ تدريس حادثة غريبة حصلت في بدايات الحرب العالمية الثانية لمّا دخلت ألمانيا إلى بولندا عام 1939. قام مجموعة من العلماء الألمان بأخذ عيّنات من غابة في بولندا، يُعتقَد بأنّ القبائل الجرمانيّة الأولى قد عاشت فيها. الإنسان "الألماني الخالص" الذي لم "يُلوَّث" بالأعراق الأخرى.

القصد من جمع العينات كان من أجل إمكانية إحياء هذا الإنسان مستقبلاً، في حال صار التطوّر التكنولوجي قادراً على ذلك. إعادة إحياء الإنسان الألماني المثالي هو بالضبط ما وصفه أدورنو بعمليّة "نقل المثاليّة الألمانية من الفلسفة إلى الطبّ والبيولوجيا". النازية، كشرٍّ يقترب من حدود الخيال العلمي، هي "حركة رومانسيّة" تحلم بإعادة هندسة كاملة للوجود. هذه السرديّة التاريخيّة تتطلّب من النفس اعتذاراً مناسِباً لها، وقادراً على نفي طاقتها. هذه المثالية في الشرّ، تستحق مثاليّة في الاعتذار، مثالية في الشعور بالذنب.

يتحوّل تعليم تاريخ النازية في المدارس إلى طقسٍ تطهّري

البُعد الدراميّ في هذه السردية التاريخيّة يحوّل درس التعليم إلى "طقس تطهّري". النازية ليست لحظة مندرجة في التاريخ، أو تطوّراً طبيعياً لعوامل مركّبة، بل هي لحظة "خارقة خارج التاريخ"، و"استثناءٌ في الطبيعة". وحقيقة أنّها كانت تعبِّر فعلاً عن إرادة اجتماعية في سياقها التاريخي آنذاك، تحوّلها إلى لحظة منبثقة بالضبط من نَفْس الإنسان الألماني. مؤرّخون كثر اعترضوا على هذه السرديّة التاريخية، والتي لعبت الولايات المتحدة الأميركيّة دوراً لا يُستهان به بعد الحرب في فرضها بكلّ الأحوال.

والاعتراض هنا لا يمسّ الحكم الأخلاقي النهائي على النازيّة، ولا يشكّك بالجرائم ولا يمسّ بمصداقية الضحايا أو واقعة الهولوكوست؛ الاعتراض هنا هو على زاوية النظر إلى التاريخ. مثلاً، لا يتمّ التركيز بشكل كافٍ على تداعيات اتفاقيّة فرساي عام 1919، بعد الحرب الألمانية الأولى، ودور فرنسا وبريطانيا في فرض شروط غير عادلة على ألمانيا. قبل توقيع فرساي، تمّ فرض حصار مطبق على ألمانيا أدى إلى مجاعة قُدِّر عدد ضحاياها بـ763 ألف ألماني. 

أُغرقت ألمانيا بالديون وتمّ تحميلها تكاليف الحرب واقتطِعَت أجزاء من أراضيها وصارت دولة كسيحة، سكّانها فقراء. الإجماع كبيرٌ بأنّ تسوية الحرب العالمية الأولى حملت في بطنها حرباً عالمية ثانية. حصر النازية في "الإرادة الشعبية" و"داخل النفس الألمانية" دون الإقرار بأهمية العوامل الخارجية (كالجوع والإحساس بالمَهانة) لن يؤدّي إلا إلى شيئين: موقف جوهري من النفس، وموقف جوهري من الضحايا.

المؤرّخ الألماني يورغ بابيروفسكي، أستاذ التاريخ في "جامعة هومبولدت"، نشر كتاباً في عام 2015 بعنوان "فضاءات العنف" (Räume der Gewalt). درس بابيروفسكي وثائق غريبة، وهي تقارير الأطباء النفسيين في الجيش الألماني حول "مجموعات التنفيذ" (Einsatzgruppen). "مجموعات التنفيذ" كانت تعمل خلف الجيش الألماني ونشطت في شرق أوروبا، وكانت لها مهمّة واحدة: إدارة إبادة اليهود. لم يكن الهولوكوست قد قُرِّر آنذاك. كان القتل يتطلّب ممارسة مباشرة لفعل القتل، وتماساً بين القاتل والقتيل. في رومانيا، استغرقت إحدى جولات القتل ثلاثة أيام، على مدار الساعة، للتخلّص من حوالي 30 ألف إنسان، نصفهم نساء وأطفال. أُرهِق الجنود فعلياً ولم يتمكّنوا من تحقيق العدد المطلوب، خصوصاً أنّ العملية شاقّة، وتتطلب حفر وديان كبيرة في الأرض ونقل الجثث لداخلها وردمها بالتراب مجدّداً. 

المشاهدات النفسية لأطباء الجيش وثّقت لدى المرتكبين حالات هلعٍ ليلي وتبوّل لا إرادي وانهيارات عصبيّة ونحيب حاد مفاجئ. التقارير التي كانت تُرسل إلى إدارة الرايخ في برلين، أشارت بشكل واضح إلى أنّ تكاليف القتل المباشر النفسيّة على الجنود كبيرة، و"مشاعر الذنب الدفينة" عند بعضهم تهدّد "سيْر العملية بأكملها". بابيروفسكي يجزم بأنّ قرار الهولوكوست لحظة اتّخاذه في مؤتمر فانسي في برلين (بحيرة Wannsee المعروفة لمقيمي المدينة) عام 1942 أخذ هذه الوثائق بعين الاعتبار. يجب ابتكار طريقة، لا يُمارس فيها القتل بشكل مباشر، وتخفّف من الاحتكاك بين القاتل والقتيل. أحد دوافع الهولوكوست هو تجاوز العواقب النفسيّة للقتل التماسي.

هذه السرديّة التاريخيّة متسقة حتّى مع تسلسل الأحداث أيضاً. العنف ليس "شأناً ثقافياً" بل هو مرتبطٌ بـ"خيارات البشر المطروحة أمامهم وقدرتهم على تغييرها". الإنسان الألماني لم يكن أحاديّ البُعد وخرسانةً من العنف المحض. كان يمارس العنف ويعاني من تداعياته. كان إنساناً تاريخياً بالمعنى العام للكلمة. الجريمة الألمانية استثنائيّة بالتأكيد، وخصوصاً ببُعدها الرومانسي، ولكنّها ليست الجريمة الوحيدة من هذا النوع، في عصرها الأقل.

الجريمة اليابانيّة، في الحرب العالمية الثانية، لم تقل غرابة ورومانسيّة. الشوق الحارق إلى عالم يهمين عليه العنصر الياباني. في مذبحة مدينة نانجينغ بالصين في 13 كانون الثاني/ ديسمبر من عام 1937، قتل الجيش الياباني 300 ألف صيني في أكبر مذابح التاريخ المؤرّخة. تقنيّات الإذلال الجنسي التي كان الجنود اليابانيون يمارسونها ضد الأسيرات الصينيات مروّعة. قُتل ما لا يقل عن 270 ألف صيني من الحرب الجرثومية اليابانيّة. ومع ذلك، لم تولِّد السردية التاريخية اليابانية أي نزعات جوهرانية من النفس.

لن يتغيّر الموقف الألماني من "إسرائيل"، بدون هيمنة سرديّة تاريخية جديدة، تضبط النازية في سياقها التاريخي، سرديّة تزيل الجوهرانية عن النفس. عندها فقط، سيحصل الفصل بين إبادة اليهود وممارسات "إسرائيل" (على رأسها جرائمها في فلسطين). وهما شيئان مختلفان تماماً.


* كاتب سوري مقيم في برلين

المساهمون