بَلَدان وعائلة واحدة

08 يناير 2023
سبيل غصّوب قُبيل تكريمه فائزاً بـ"غونكور ـ طلّاب التعليم الثانوي" في باريس، 2022 (Getty)
+ الخط -

"بيروت على نهر السين" هو عنوان رواية الفرنسي ـ اللبناني سبيل غصّوب، الصادرة بالفرنسية صيفَ 2022، والتي نالت جائزة "غونكور ــ طلّاب التعليم الثانوي". لا أعرف إذا كانت تستحقّ تسمية رواية. الأرجح أن شيئاً كهذا لم يفت كاتبها، الذي يصرّ، منذ بدايتها، على أنها بكاملها سيرة، فهو يسمّي ــ في مدخلها ــ أشخاصها الحقيقيين، ويذكر بالحرف قرابتهم له. يذكر أباه قيصر وعائلته، أمين أخاه الأصغر، وسلمى أخته الصغرى. كما يسمّي والدته حنان، ويذكر إلياس، أخاها الأكبر، وحبيب أخاها الأصغر. أمّا عائلته هو، فتقتصر عليه، وعلى أخته الكبرى يالا. لكنّه، في موضع آخر من الكتاب، يُضيف صديقته ألما إلى عائلته. نفهم أن أبويه نزحا إلى فرنسا في غمار الحرب الأهلية، حيث وُلد وولدت أخته هناك.

"بيروت على نهر السين" هي بيروت العائلة، وباريس العائلة. لكن، من داخل العائلة، سننفذ إلى الحرب اللبنانية، وننفذ أيضاً إلى المذكّرات الباريسية، لكنّ باريس ليست كلّ العالم، فمنها ومن بيروت نطلّ على يوميات الوطن ويوميات المنفى. سيكون سبيل، الاسم الذي اختاره قيصر غصّوب لابنه، اسماً غريباً ابتدعه الأب وليس له مثيل في الأسماء؛ يعني الطريق، وقيصر، الشاعر بالفصحى، الذي لم نجد له نصّاً في رواية ابنه، استبق، بالاسم والأشعار، مستقبل ابنه، الذي سيكون ما لم يصره أبوه: كاتباً.

لن يحقّق سبيل حلم أبيه فحسب، بل هو، في كتابه، سيحقّق أمنية أُمّه، التي لن يُسايرها في تعلّقها بالعائلة، التي، رغم أنه بدأ ضدّها، لم يلبث أن كتب عنها رواية كاملة. رواية سبيل غصّوب تُلاحق المكان اللبناني الذي، رغم أنه لم يولَد فيه، استلحق هذا بالتردد على لبنان وبالغرق في تفاصيله.

فرنسي ولبناني بذات الإصرار، لكن بذات البُعد عن البلدين

نحن في "بيروت على نهر السين" لا نلبث أن نلاحق اليوميات اللبنانية منذ الحرب الأهلية حتى الاحتلال الإسرائيلي، حتى المقاومة الإسلامية، وانتهاءً بانفجار المرفأ. بالطبع، هناك جولة الابن على الوقائع اللبنانية، وانفجارات لبنان، وأحدها حدث في الضاحية، حيث، لأمرٍ ما، كان سبيل فيها. الحرب اللبنانية تستقطب العائلة، فلأمرٍ ما كان أهل قيصر وأهل حنان قريبين من "الحزب الشيوعي"، الذي أرسل أحدهما إلى الاتحاد السوفييتي، حيث اصطدم بالواقع السوفييتي وانقلب عليه، فيما بقي الابن الآخر مخلصاً للشيوعية ولعاصمتها الروسية.

يُفاجئنا أن تكون الأسرتان المسيحيّتان، أسرة الأب وأسرة الأم، قريبتين إلى هذا الحد من الشيوعية، في الوقت الذي كان فيه المسيحيون في المعسكر الآخر. الأمر، في كلّ حال، لم يقف عند هذا الحدّ، فثمة في العائلة مَن انحاز إلى جانب مليشيات مسيحية، إلى حد التدرُّب في "إسرائيل"؛ هذه هي حال أمين، أخ الأب الأصغر.

غلاف بيروت على نهر السين

كانت هذه مذكّرات الحرب الأهلية اللبنانية، كما حدثت في لبنان. الأمر في فرنسا لم يكن بعيداً جدّاً، إذ كانت الحرب اللبنانية تجد طريقها إلى فرنسا. انفجارات باريس كانت من عواقبها. كان جورج عبد الله، الذي كان لا يزال معتقلاً في فرنسا، ضحية هذه الحرب، التي كان فيها بديلاً للمقترِف الحقيقي فؤاد أبي صالح. المهم أن الأبوين كانت لهما أيضاً حياتهما الباريسية. الأم اشتغلت، في ما يشبه السر، في السفارة العراقية بفرنسا، فيما كان الأب، الشاعر، يرتدي على تيشرته صورة صدّام حسين. الأمّ عملت أيضاً في غاليري وضّاح فارس الذي نقلها من لبنان إلى باريس، وكانت للعائلة صلة وثيقة بشفيق عبّود، الفنان اللبناني المقيم في باريس.

حياة الأسرة الباريسية كانت توطئة لحياة الابن، الذي صار كاتباً بدلاً من أبيه، والذي حياته مثالٌ على عنوان روايته، "بيروت على نهر السين"، أي أنه بين بيروت وباريس وحياته ككاتب وكإنسان هي في هذا الوسط. إنها حقاً نموذج آخر من هذه الرواية. أن تكون فرنسيا ولبنانياً في آن معاً، وبذات القوّة والإصرار، لكن بذات البُعد عن البلدين. ذلك أقرب إلى أن يكون مُواطناً عالمياً، لكنّ سبيل غصّوب، على العكس، يزداد لبنانيةً إلى الحد الذي لا يحيد عن العائلة. إنه ابن أبيه وأمّه، وأخ أخته، وابن أخ وأخت أعمامه وأخواله. العائلة وطنه الأصغر، وهو في النهاية ابنها؛ إنها بهذا المعنى تتكوّن في عدة بلدان، لتكون كذلك بلده الحقيقي.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون