تلك البيوت المستندة على بعضها، المشرقة، المسوَّرَة بأشجار البرتقال والزيتون، والمرصوفة طرقُها بالآمال، باتت رمادًا. لكن هبة زقوت، التشكيلية الفلسطينية التي استشهدت مع ابنها منذ أيام جرّاء القصف الإسرائيلي، لم ترسم يومًا طائرة تقصف مشفىً، أو صاروخًا يهدم كنيسةً، أو صهيونيًا يَسحل النساء ويقطع رؤوس الأطفال.
يا لهؤلاء الفلسطينيين!
سردية واحدة اعتمدتها وسائل الإعلام الغربية منذ سنوات طويلة. "حلم" صهيوني جرى تسويقه لليهود. وفي سبيل تحقيقه، صمّوا آذان الغرب، وكمّموا أفواه العرب، احتلّوا فلسطين وبنوا عليها المستوطنات، ولم يتخيّلوا أنّهم يُشيّدون أفظع كوابيسهم أيضًا.
يا لهؤلاء الفلسطينيين الذي يَرشقونهم بالحجارة، والأقلام والألوان والريشات! رسمَت هبة زقوت بيوتًا فلسطينية متراصّة، البيت في ظهر البيت، في كتف البيت، مرفوعة جباهها نحو السماء المليئة بالألوان. بيوتًا لها تيجان مزيَّنة، لها أفواه وعيون. أشجارًا متعطّشة للحرية، شواطئ ومراكبَ وشموسًا ملوَّنة، وطائرات بلاستيكية تملأ الأفق.
آمنت هبة زقوت بأنّ تلك البيوت يمكن أن تُملأ بالموسيقى، بالأمل، وبأنّ المرأة الفلسطينية ليست ضحية، رغم كل ما تراه من اعتداءات وسلب للأرض والأبناء والأحلام. لكن حمامات السلام حطّت في حضنها، وعلى صدرها تَبنى عشرات البيوت، وتزرع مئات الأشجار، وفوق رأسها تُشرق الشمس.
رسمَت بيوتًا فلسطينية، أشجارًا متعطّشة للحرية، شواطئ ومراكبَ وشموسًا ملوَّنة
رغم الحجارة المتناثرة في الشوارع، وافتقارهم للأسلحة، آمن الفلسطينيون بالشِّعر والنثر والألوان، كما آمنوا بالأرض. تشكيليون مثل إسماعيل شموط وعبد الحي مسلّم، رصدوا أركان الحكاية الفلسطينية، لكن هبة زقوت طوّعت فرشاتها للحكاية التي لم تحدث بعد، للصورة التي أحبّت، وتلاميذها الأطفال الذين درّست لهم، أن يروها جميعًا.
ولا نعرف كم من تلاميذ هبة قد سقطوا أو يسقطون الآن في القصف المتلاحق، فالعالم لا يعرف بعد أسماء الشهداء الفلسطينيين الذين وصلت أعدادهم إلى حين كتابة هذه السطور، إلى 4385 شهيدًا، 1756 منهم أطفال، ولا أسماء الجرحى البالغ عددهم 13561، ولا العالقين تحت ركام البيوت المقصوفة. ربما عرفنا الأرقام فقط. تلك الأرقام التي لن نستطيع إحصاءها حتّى على مدى خمسة وسبعين عامًا.
لكن آذان العالم بدأت تنصت لحديث الفلسطينيين، لشِعرهم ونثرهم وألوانهم، وصراخهم أيضًا. انتفضت شعوب لم نكن نتوقّع يومًا أن تنتفض لقضيتهم، مظاهرات في كلّ مكان من العالم، في أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأستراليا واليونان وكوريا الجنوبية واليابان وجنوب أفريقيا وغيرها. منتخب تشيلي يظهر بالكوفيات الفلسطينية، لاعبو كرة قدم وممثّلون عالميون يوقّعون خطابات لحكوماتهم، ساسة غربيون وطلّاب جامعات ومنظّمات حقوق إنسان، ويهود هتفوا من قلب الولايات المتّحدة الأميركية: لا ترتكبوا جرائم الحرب باسمنا.
ارتقت هبة زقوت وآلاف الفلسطينيين على مدى خمسة وسبعين عامًا. انهدمت تلك البيوت الآمنة الملوّنة التي رسمتها على رؤوس أصحابها. رأينا الأطفال قبل الكبار على شاشات التلفاز، يلصقون آذانهم على ركامها، ينادون على ذويهم، ينبشون الأرض بحثًا عنهم، وعن الأمل والحياة. يبحثون عن الحب، الذي ظلّت هبة، وسيظل الفلسطينيون يبحثون عنه، ما داموا على قيد الحياة.
* كاتبة من مصر