أفكّرُ في الحروف الثلاثة التي تتكوّنُ منها كلمة "بيت" (ب/ ي/ ت)، وفي المحتوى الدلالي، والحياتي والنفسي لهذه الكلمة. أليست معجزة أن تضمّ هذه الحروف الثلاثة حيواتٍ لا تنتهي من المسكن والسكينة للجسد والنفس؟ وبيوت الناس ليست سواسية، لكنها في النهاية مأوى يلجأُ إليه الإنسان ويلقي رأسه على وسادة أو ما كان، فتستقيم الأمور، حتى وإن لم تكن كذلك. إذاً البيتُ وسادةٌ ودرعٌ وحاضنةٌ أمام فساحة العالم وصخبه في آنٍ واحد.
وإنّها لمصادفة عبقريّة حقاً، أن تُطلقَ لفظة "بيت" على البيت الشعري باللغة العربية، فالشعر، أيضاً، وسادةٌ ودرعٌ وحاضنة، وإن كان لغة، أي إطلالات كلاميّة دون أُسس مادّية ملموسة. لكن في الحقيقة هذا ظاهر الشيء، أما الأهم فإنَّ الشعر، أيضاً، له عوائد مادّية كثيرة من ناحية السكون النفسي الذي يتولّدُ من المعنى، أياً كان المعنى، وصدى البناء اللغوي الذى يتأتّى من الشعر والتحام الأحاسيس، لعلَّ الإنسان يرتقي معنىً وروحاً. إذاً، في البيت سكَنٌ وسكينة، وفي الشعر سكَنٌ وسكينة. وكلاهما، البيتُ والشعرُ، ارتقيا بـ الفلسطينيّين شعباً وقضيةً وأصداء بقاء. لكنَّ الدوائر تدورُ والمآسي تتعاظم، فتسقطُ البيوت مع أهلها، ويعجز الشعر عن سدِّ الرمق. يعلق الشعر في روحٍ عطشى لخلاص ما في هذا العالم المُوحش.
كلاهما البيت والشعر ارتقيا بالفلسطينيّين شعباً وقضية
قد يبدو ما سبق فذلكة فلسفية، في سياق ما يجري بغزّة وعموم فلسطين، من حربٍ صهيونية همجية لا مثيل لها ضدَّ الشعب الفلسطيني البطل والصامد والمُحتسب. لكنّ فكرة البيت الذي تهدمه "إسرائيل" هو في صميم ما أودُّ التطرّق إليه. "إسرائيل" تستهدفُ الروح الفلسطينية من خلال تدميرها بيوتهم، وتمعنُ في ذلك لكسرِ الإرادة وهجران المعنى من مقاومتها ككيان محتلّ حقير. هي تعرفُ أنّ الفلسطينييّن كأفراد، آباء وأمّهات وأبناء وبنات، نزفَ الدم من أقاصي قلوبهم وأرواحهم حتى بنَوا بيوتهم، وشيّدوا لأنفسهم مأوى من عواصفِ الحياة التي لا تنتهي فتكاً وضغطاً.
تمعنُ "إسرائيل" في التنكيل الجماعي من خلال استهداف بيوت الفلسطينيين اليوم كما سرقت بيوتهم الفسيحة وحدائقها الجميلة في عام 1948، ومنحتها للُّصوص من أصقاع العالَم فقط على أساس ديانتهم اليهودية، ولا شيء آخر، وفي حالات قليلة أُخرى على أساس انتمائهم للصهيونية كفكرة تطهير عرقي.
وُلدت الأمور مشؤومة مع هذه الدولة الصهيونية وتفاقم الشُّؤم، فمن سرقة البيوت وإبادة ساكنيها، إلى هدمها بعد إخلاء السكّان منها، إلى ما هي عليه الأحوال في غزة حيثُ تُهدَم البيوت على رؤوس ساكنيها، وتُهدم بالجُملة، وتتهاوى مربّعات سكنيّة بأكملها. تلك المربّعات التي كانت تعجُّ بالحياة وترفعها بالضحكات واللقاءات عند زوايا الشوارع، و"أكل البزر"، و"لفّات الشاورما"، والسلامات بالأيادي والعناقات الحارّة، ولعب الكرة المكوّنة من "جرابين" وركلها على حيطان يتشاركها الجيران، وابتسامة ماء المطر حين يأتي في عيون الأطفال، وسطوع الشمس على الحجارة وكسوتها بالذهبي المُسَكِّن للنفس.
يحتاجُ المرءُ قلباً من الفولاذ للصبرِ على ظُلم كهذا
كلُّ هذه تصبح أنقاضاً. وتبدأ البلبلة والفاجعة في البحث عن الناجين بين الأنقاض. والأنقاض كلمةٌ مُؤلمة على حاسّة السمع، فهي تحملُ في طيّاتها موتاً، ونزفاً وهلعاً وخوفاً وتشرُّداً ومستقبلاً بلا عنوان. يحتاجُ المرءُ قلباً من الفولاذ للصبرِ على ظُلمٍ كهذا وواقع مُزرٍ كهذا. تهدمُ "إسرائيل" بيوتاً من الباطون، وبيوتاً من "الزينكو"، وبيوتاً من الإسمنت، وبيوتاً من قماش الخيام، وبيوتاً من رؤوس وأرواح البشر.
أودُّ لو أن اللغة تصرخُ لأصرُخَ من خلالها على هذا القهر، وهذا الظلم، وعلى بعض من جيوب هذا العالم البشع.
مساكننا عيوننا
يشيخُ فيها الوقت
ويسكنُ فيها القلب
والهاوية.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن