استمع إلى الملخص
- **الأنشطة الثقافية والأدبية**: تشارك الكاتبة في فعاليات ثقافية وأدبية في نيويورك والوطن العربي، مثل تحكيم جائزة بوكر العربية وحضور مهرجان جرش الشعري ومعرض الكتاب بالرياض.
- **الكتابة كوسيلة للتواصل والهوية**: تعتبر الكتابة وسيلة أساسية للتواصل مع وطنها وهويتها، حيث تلقت دعوة للكتابة الأسبوعية عبر "العربي الجديد"، مما أعاد إشعال شغفها بالكتابة.
أعيش بنيويورك منذ أعوام، وما زلتُ أحيا على تحيُّن الأقدار كلّما لاحت سانحةٌ لعناق نخل بلادي وعناق شمس بلاد العرب أوطاني من مشرقها لمغربها، ومن بحرها الأبيض لخليجها الذهبي، وكأنّ التحوّلات الشاهقة على أرض وطني والتشظّي الباهظ على أرض الوطن العربي يلعبان دور المبضع والجرح، فلا أضيع كريشة في مهب البعاد.
فعلى ثراء نيويورك المعرفي بتباريه مع بؤسها الموجّه للشرائح المرهقة وشوارعها المتّسخة الرثة، فإنّها لا تكفّ عن غواية البعيدين والغرباء معاً، فأعيش فيها حالة من التوزّع بين تعدّد عوالمها وعالمي.
أسرح مع بعض عوالمها من برج باركلي الشاهق حيث يمشيه حافياً ساخطاً الشاعر الإسباني لوركا مع والت ويتمان وثلّة من كتّاب هارلم وبرونكس وليتل يمن وليتل إيطالي وتشينا وكورين تاون ومشرّدي التايم سكوير وركفلور سنتر... يقودهم عبر الوقت والكمائن جيمس بلدوين، وتوني موريسان، ونجلاء إدوارد سعيد وحزمة تتزايد من كتّاب نيويورك الشباب من المعنيّين بالمستقبل الأسود جينا وارثام، وكيمبيرلي درو، ونآيم كوستر في هيلسي سترييت، وجاكلين وودسون.
أواصل رحلة الحبر وكأنّني أبدأ غواية الكتابة لأوّل مرّة
أُحيّي بعض الصحب القدامى والجدد منهم وأواصل حياتي على الأرض الملتبسة البعيدة عنّي وأنا عليها كأنّني أرقب حياة أُخرى تمرّ بجواري.
عبثاً أحاول محتشدةً بالشكّ أن أكتنه سرّ التشابه بيننا المنعكس على مرايا متشظّية بالكاد تتلاصق لتظهر صوراً مغبشة قد تكون طبق الأصل عنّا.
تتوزع أيامي في زمهرير شتاء نيويورك وفي خريفها البهاري الخلّاب من جريدة نيويورك تايمز عند باب بيتي على الجادة الأُولى بطبعتها الورقية الغامقة الغنّاء إلى نادي الشعراء بالوست سايد وملتقى الكتّاب بكوين، مجمع الثقافات بالأمم المتّحدة إلى متحف الفن الحديث ومتاحف الأطفال والحديقة المركزية ومعقل الموسيقى العالمي لنكون سنتر وبوتينيك بارك، ومن المكتبة العامّة ومن جامعة نيويورك وكولومبيا ومكتباتهما الآسرة إلى مكتبة بارنزاند نوبل ومكتبة أمازون بين الجادة الخامسة والسادسة، ومن ممشى النهر الشرقي الناهب للحواس لحظة الشروق إلى عبّارات نهر هادسون مبتعدةً عن مبنى التجارة العالمي ملوّحة لتمثال الحرّية المغلّف بالضباب.
ومع كلّ ذلك، فإنّ رغد الغربة لم يستطع أن يمحو حالة الحنين التي كنتُ أحيا بها وما زلت أحيا عليها كمن يدّخر حاجته للفرح ويوفّر قروش قوته ليوم العيد أو كمن يخبئ احتدامات أحاسيس الخطبة لليلة العرس... لريثما ينتهي الحجر العاطفي الذي تفرضه ظروف الفراق، سواء كانت لعمل أو لاستشفاء أو لأسباب أُخرى متداخلة أو متنوّعة.
قبل أن تبدأ اندلاعات الحنين بالتهام ما تبقّى من تجلّدي
وفي هذا السياق من حالة التقلّب بين قسوة المسافة وبين جبروت الوجد، ولمزيد من إشعال نار الجوى وإضرام شعلة الشوق، فإنّني أنظر لكلّ دعوة تُعيدني للحمى على أنّها فألي الحسن وحظّي الكبير ورحمة ربي المتّسعة لكلّ شيء، تلك التي تبقيني على قيد القرب من مسقط الرأس والقلب والحبر والروح بالمملكة العربية السعودية وبتخومها المجاورة من المحيط إلى الخليج... حدث ذلك عندما قرّرتُ أن أترك كلّ ما يبقيني بنيويورك وأقطع تذكرة ولا يرد رأسي إلّا الرياض مباشرة من نيويورك في اليوم الأوّل المجيد لانطلاقة قيادة المرأة للسيارة (24/ 07/ 2018).
وحدث ذلك عندما قبلتُ بحماس طفولي كعادتي في التعامل مع التجارب الجديدة على خطّ معهود عملي الأكاديمي والشعري بالمشاركة كمحكّمة للروايات الخاصّة بجائزة بوكر العربية العالمية عام 2019، فوجدتُ نفسي بعد قراءات مترعة للعدد الكبير من الروايات المرشّحة مرّة في الأردن غير بعيد عن شمال القلب من الحُديثة إلى أجنحة الجوف، وذلك لتباحث القائمة القصيرة للروايات، كما وجدت نفسي للمرّة الثانية في أبوظبي لإعلان الرواية الفائزة، لأكون قاب أدنى من قوسين لرمّانة الكتف بوطني شرق السعودية خلال عام واحد. وحدث ذلك أيضاً عندما حداني الشوق والقلق لأعود إلى الرياض للاطمئنان إلى عمّتي موضي، وقد كانت الجائحة لا تزال بوسواسها جاثمةً على صدر العالم برمّته عام 2020... أمّا في عام 2021 فقد عدتُ لعمّان للمشاركة في مهرجان جرش الشعري.
وقبل أن تبدأ اندلاعات الحنين بالتهام ما تبقّى من صبري وتجلّدي على غربة نيويورك، جاءني طوق النجاة مفاجأة وأنا في عيادة كورنيل على شكل مهاتفة من "هيئة الأدب والترجمة والنشر" ممثّلة بالروائي المبدع محمد حسن علوان تدعوني للمشاركة في أمسية حوارية مع الشاعر البحريني المجدّد قاسم حدّاد بمعرض الكتاب السنوي بالرياض، من خلال إشرافها عليه لعام 2022 وما قبله وما بعده، فلم أشعر إلّا وقد دبّت الصحّة في روحي لدرجة إحساسي بأنّني أستطيع أن أعود إلى الرياض طيراناً بأجنحتي الذاتية دون عناء المطارات ووعثاء السفر.
أمّا في العام 2023، فقد عدتُ في أوّله إلى أرض الوطن للمشاركة في مناقشة إحدى طالبات الدراسات العليا ولم أعلم حينها بأنّني على مشارف نهاية العام ومع مطلع 2024 سأكون على موعد مع قدري الشعري في واحدة من أجمل تجاربي، عملي في المجال الإبداعي، وذلك من خلال المشاركة في لجنة تحكيم برنامج "المعلّقة 45" الأوّل من نوعه على مستوى الوطن العربي، في اعترافه وفي اعتداده بتقديم برنامج تلفزيوني يمثّل جناحي الشعر العربي الفصيح والشعبي ويقدّم كل أطيافه من القصيدة العمودية لقصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر ويُدخلها، على قدم المساواة، كلَّ بيت سعودي وكلَّ بيت عربي بأريحية واعتزاز بجميع شعرائها نساءً ورجالاً وتجارب معتقة وتجارب جديدة جنباً إلى جنب.
هذا دون أن أفرّط يوماً في حبل المشيمة المرهف وشعرة العشق المتين التي تربطني بوطني عن طريق الكتابة على مدار الأعوام، سواء كانت كتابة يومية أو دورية، تلك الكتابة التي تشكّل هويتي ومهوى الفؤاد في سلام الاستقرار وفي قلق السفر معاً.
وقبل أسابيع، وقد كنتُ أقف على مفترق رحيل جديد، جاءتني دعوة الكتابة الأسبوعية عبر مطلّ ثقافي لم يسبق لي التلويح منه بحرفي، وإن كنتُ قد زاملتُ الكثيرين من المشاركين في تشكيل سمواته، أدباء وكتّاب رأي وشعراء، من خلال مشوار الثقافة الطويل وتقاطع مسافاته.
عندها وقفتُ متأمّلةً صدفة توقيت الدعوة، فبينما اعتذرتُ قبل عدّة سنوات عن قبول دعوة مشابهة جاءتني من الصديق الشاعر أمجد ناصر يرحمه الله، فقد رأيتُ في دعوة الزميل نجوان درويش مثلما يرى مسافرٌ على طريق غامض بارقةً أو وميضاً فيتبع نداء الريح.
لهذا قرّرتُ أن أجيب هاتف الحبر حبّاً وكرامة، فوجدتني على أرض الدوحة شقيقة الرياض ومع ثقافة "العربي الجديد" الأصيل.. أواصل رحلة الحبر وكأنّني أبدأ غواية الكتابة لأوّل مرّة.
* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية