بين الكاتب والمترجِم

13 نوفمبر 2024
الروائي والكاتب المسرحي السلوفيني دراغو جانكا في سان مالو بفرنسا، 2012 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي كلاوديو ماغريس قصة حذف فصل من رواية "أضواء الشمال" للكاتب دراغو جانكا في النسخة الروسية لتجنب أزمة سياسية محتملة، مما يثير تساؤلات حول حقوق المؤلفين في الحفاظ على نصوصهم الأصلية عند الترجمة.
- يتناول النص مواقف المؤلفين المختلفة تجاه الترجمة، حيث ينتقد بعضهم التعديلات على أعمالهم، بينما يظهر آخرون مرونة، مما يعكس تأثير آراء النقاد على العلاقة بين المؤلف والمترجم.
- يشير النص إلى أن القراء قد يتبعون آراء النقاد دون تفكير نقدي مستقل، مما يؤثر على استقبال الأعمال المترجمة.

يحكي الكاتب الإيطالي كلاوديو ماغريس في كتابه "أبجديات" ("Alfabetos")، أنه في عام 1990، ذهب الكاتب السلوفيني دراغو جانكا (1948)، كما يروي هو نفسه، إلى موسكو لتقديم النسخة الروسية من روايته "أضواء الشمال"، وأنه اكتشف هناك بالمُصادَفة - على الرغم من جهله باللغة الروسية - سقوطَ فصل من روايته الأصليَّة من عمله المترجَم إلى الروسية. لم تكن المسألة ذات صلة بالرقابة، كما أوضح المترجم الذي التفتَ إليه المؤلِّف في حركة دالّة على سخطه ممّا عاين، بل كان بالأحرى اهتماماً بالصَّواب السياسي لمصلحته الخاصة: كان المحرّر يخشى أن تُعتَبر تلك الصفحات من المحاكاة الساخرة - التي تُحاكي الهذيان العنصري وهو أمرٌ مفروغ منه - أفكارَ المؤلّف، فتُساهِم في انتشار الدوافع المعادية للسامية وتشويه سمعة جانكا.

واضح أنّ المترجِم ودار النشر كِلَيْهما قد تصرَّفا بحكمة، بأنْ تفاديا أزمة سياسية، وفي الوقت ذاته حافظا على مصلحتهما المعنوية مُمثَّلة في صدور الرواية، وعلى مصلحتهما المادية بتحاشيهما الخسارة في حال مُصادرة السلطات الروسية للكتاب، فضلاً عن ضَمانهما، وقتذاك، لحضور دراغو جانكا تقديمَ روايته في البلد الشيوعي.

لم يتردّد محمد شكري والعروي في انتقاد بعض ترجمات أعمالهما

لكنْ هل الكُتّاب جميعُهم يَمتعضون من التصرُّف في أعمالهم من قِبل المترجِمين أو دور النشر؟ وهل في سلوك هذا المترجِم بتواطؤ أكيد مع دارِ النشر، التي اتخذت معه هذا القرار، ما يُخلُّ بما يُعدّ عند كثيرين إحدى الركائز الرئيسة التي تنهض عليها الترجمة، والتي تتمثّل في ضمان حقّ القارئ في الوصول إلى الصيغة الأصلية في غير لغتها الأولى، بالامتناع عن التصرُّف فيها؟ وكيف يُمكن بناء الثقة بين الأطراف الثلاثة في عملية الترجمة: أوَّلاً المؤلِّفُ الذي يُوكِل عمله إلى غيره، وثانياً المترجِم ودار النشر اللذان يسهران على تحويله إلى اللغة المنقولِ إليها وإخراجه، وثالثاً القارئ الذي يُقبِل على الترجمة مُسلِّماً بأنه يقرأ الأصل في لغة مُضيفة؟ وهل يكون هذا القرار إفصاحاً آخَر يُرسِّخ ما تُوصَم به الترجمة من خيانة منذ أزمنة سحيقة؟ ثمّ هل المؤلِّف يشكو من ذلك حقّاً أم أنّ النّقاد هم مُثيرو الزوبعة وأن القُّرّاء يُردّدون خلفَهم دعاواهم؟

لكن ما العمل حين يكون المؤلِّف غير مُكترِث بهذه المشكلات، مثل حال و.فولكنر، الذي كاشَف مترجِمَه الشهيرَ الإسبانيَّ إلى الفرنسية مُورِيس إدغار كواندرو (الذي كان يُترجِم إلى الفرنسية والإنكليزية أيضاً، حتى إن سارتر قال في حقّه "الأدب الأميركي مُتَرجَماً إلى الفرنسية هو أدبُ إدغار كواندرو) في آخر لقاء بينهما، قبل وفاة فولكنر، بقوله: "إني مَدينٌ لك بالكثير، وإني أشعُر عند كل ترجمةٍ لك بأني أخونُك ولا أُنصفك"، فردّ عليه فولكنر: "لماذا تَشغل بالك بهذه الأمور، وأنه إذا اعترضتْكَ صعوبات فما عليك إلّا أن تتجاوزَها وتتخطّاها، لأن العمل عند انتهائي منه يغدو مُلكاً لقُرّائي والجمهور، ولا يبقى لديّ شيء لأقوله، لأني أنصرف مُباشَرة إلى تأليف عمل آخر". ولمّا ذكَّره كواندرو بأن "الإخراج السينمائي يتصرف في أعمالك"، أجابه فولكنر "لم أرَها قَطّ. اِقفزْ على ما لا تفهمه".

وحدث الشيء نفسُه تقريباً للمترجِم الفرنسي برِيس ماتيُوسن مع الروائي الأميركي جِيمْ [جِيمس] هاريسون، الذي عند اطّلاعه على الحجم الضخم والهائل لإحدى رواياته مُترجَمةً، بادَر ماتْيُوسِنْ قائلاً "هل أضفتَ إلى الرواية فصولاً وشخصيات؟" فنفى المترجِم ذلك، وأعربَ عن التزامه بألا يتصرَّف في مِلك صاحبه الأصلي، ففاجأه الرِّوائي قائلاً "لا تتردّد في أن تُضيف إلى رواياتي من عندك ما بدا لك مناسباً، فأنا من جهتي لا مانع عندي". 

لا يعني هذان الموقفان أن المؤلِّفين جميعاً على موقف واحد من ترجمة أعمالهم، فالمعروف أن محمد شكري وعبد الله العروي قد جَرُؤَا على إبداء مؤاخذات على ترجماتٍ أُنجِزت لِبعض أعمَالِهما؛ لكنَّ هذا لا يمنعنا من افتراض أن يكون الإيقاع بين المترجِم والمؤلِّف مَردُّه إلى نُقّاد الترجمة في الأساس، وأن المؤسِف هو انسياق القُرّاء خلفَهم.


* أكاديمي ومترجم من المغرب
 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون