بيدرو كسارييغو كوردوبا: السيل في هطوله

30 أكتوبر 2020
(بيدرو كسارييغو كوردوبا)
+ الخط -

بيدرو كسارييغو كوردوبا Pedro Casariego Córdoba، من الأصوات التي برزت في المشهد الشعري الإسباني خلال سبعينيات والنصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي. كان شاعراً متميّزاً على مستوى الكتابة، وكان أيضاً غريب الأطوار على مستوى علاقته بالعالم والناس والأشياء؛ فقد أحسّ منذ البداية بأن وجوده في العالم بلا معنى، بل إن العالم ذاته لا معنى له، ولذلك أصبحت الكتابة بالنسبة إليه أقرب إلى رحلة شاقة غير قابلة للتحمّل. سيهجر بيدرو الكتابة إلى التشكيل والرسم بعدما كرّس نفسه كلياً للأدب بين عامي 1974 و1986. استبدل الكتابة بالرسم وباللون، كان أحياناً يُرفق رسوماته بنصوص، مثل عمله المعنون "الحياة يمكن أن تكون علبة صفيح" (1988).

تزوّج بيدرو عام 1989، ومنذ ذلك الحين ابتكر العديد من الأعمال التشكيلية التي تجاوزت مئة لوحة، بعضها يُعتبر عملاً مستقلاً، والبعض الآخر يندرج ضمن سلسلة مترابطة، مثلما هو الحال بالنسبة إلى "الأيادي"، و"الوحوش"، و"الموائد"، و"الأثاث".

في السادس من كانون الثاني/ يناير من عام 1993، أنهى حكاية مصوّرة قدّمها كهدية لابنته خولييتا بمناسبة عيد ميلادها، عنونها "بيرنامبوكو، الفيل الأبيض"، أنهى بها مشواره الإبداعي. لأنه بعد ذلك بيوميَن سيقضي منتحراً؛ فقد "عضّه قطار جائع" كما قيل، لقد ألقى بنفسه على مسار قطار في محطة أرافاكا بمدريد وعمره 37 عاماً.

بيدرو كسارييغو كوردوبا - القسم الثقافي
"بيرنامبوكو، الفيل الأبيض"

عن أعماله الشعرية، يقول: "طريقتي في الكتابة هي محاكاة للسيل في هطوله. إنها تتمثّل ببساطة في فتح صنبور والسماح بتدفّق جميع السوائل وكيمياء كل الأغاني الممكنة منه، مع محاولة استجماع الصور وسرقة الكلمات من الصحف وتعبيرات الناس والمفاهيم من القواميس".

أمّا والد الشاعر، المهندس المعماري بيدرو كاسارييغو هيرنانديث- باكيرو، فيقول في الكلمة التي تغلق ديوان "قصائد متسلسلة" كخاتمة: "لقد كان لدي ابن غريب. كانت فضائله قوية، كانت لديه نزاهة وصبر وتقشّف واستبصار، صارت لدينا في الأسرة مثالاً يُحتذى، بل ووسمتنا بنار".

كان يصرّ على محاولة عدم تلقّي أي تأثير من أحد

ويكتب أنخيل غونثاليث، أحد أهم الأصوات الشعرية في الجيل الخمسيني، في مقدّمة الكتاب ذاته معلّقاً: "إنه فنان مثير وغامض... لا مثيل له في الأدب الإسباني لزمنه. مؤلّف في دأبه السرّي لم يستطع أن يتجنّب تقديم عمل أدبي غير مألوف للغاية مثلما هو جد معقّد. سوف ينبثق بصفاء اليقين عمّا كانه بشكل حقيقي ومؤلمٍ؛ فقد كان أوّلاً وقبل كل شيء شاعراً، شاعراً رائعاً".

أُصدرت أعماله الشعرية الكاملة في ديوان بعنوان "قصائد متسلسلة"، صدرت الطبعة الأولى منه في 2003، وبعد مرور ما يقارب العقدين من الزمن صدرت مؤخّراً طبعة جديدة منه، طبعة تذكارية مستدركة ومنقّحة وموسّعة... لقد كتب بيدرو كسارييغو هذه القصائد عبر مساراته الخاصّة والذاتية فقط، ولربما عبر مسارات عبرها آخرون مصادفة دون معرفته بهم وبمساراتهم، فقد كان يصرّ على محاولة عدم تلقّي أي تأثير من أحد.

قصائد متسلسلة - القسم الثقافي

تكمن جذور فكرته الشعرية في تلك الرغبة الملحة في أن يحافظ على نقائه الإبداعي، وفي قناعته الراسخة بعدم كفاية اللغة، وبفكرة الفن الداخلي والصراع الوهمي مع الزمن عبر الشعر كسلاح... وبذكاء نادر كان يغربل كل ذلك، فكتاباته وصَمْتُه منذ عام 1987 يستجيبان لخطّة مدروسة ومتأمّلة بعناية سلفاً، وبالتالي ليس من المستغرب أن يكتب أنخيل غونثاليث في المقدّمة المذكورة سالفاً: "أصالته التي لا جدال فيها ليست شيئاً يسعى إليه، ولكنها حقيقة مستمدّة من موقف تجاه الكتابة، التي في مشهد الأدب الإسباني لنهاية القرن العشرين، لا يشترك فيها مع أحد".

"قصائد متسلسلة" لها حبكة، تضطلع بدور البطولة فيها شخصيات ذات أسماء غريبة نوعاً ما: فان هورن، سكرتير المكتب كيركيغارد، القاتلة ناديجدا زيلوفا، مالك رجل القمامة، واتاكسي، بايفارينتا الوقح، السيدة الحزينة شنايدر. تتنوّع مسارح الأحداث، تماماً كما تحدث الأشياء في نيويورك أو سان فرانسيسكو أو هانوي أو في حي دي فالين، ولكن أيضاً في زنزانة سجن، وعربة قطار، وغرفة مليئة بأنسجة العنكبوت، وكوكب سيار قاحل.

ترتيب الكلمات في كل قصيدة له أهمية قصوى، فهي في بعض الأحيان تبدو مثل رسومات أو قصائد مصوّرة عبر الخطوط ومرقّمة، المواضيع التي تطرقها متنوّعة، "مع تحويرات لبعض مكوّنات الروايات السوداء، ووقائع أحداث متشابكة، وأفلام السلسلة باء، والكوميديا أو الخيال العلمي"، مثلما كتب خابيير رودريغيث ماركوس في إحدى مقدّمات الطبعة الجديدة.

في الجانب الآخر، يشير أنخيل غونثاليث إلى الصوت الذي يمرّ عبر كل أعمال بيدرو كاسارييغو، والذي "يكشف بصدق جلي عن علاقته الحميمة والمعذبة وأوجه القصور التي ابتُلي بها، وهي: العزلة واللاتواصل واللايقين والبحث الصعب عن الحب".

بعد ما يقرب من عشرين عاماً على نشرها للطبعة الأولى، تعيد "سيكس بارال" نشر الأعمال الشعرية لبيدرو كاسارييغو كوردوبا في طبعة منقحة وموسعة ومراجعة من قبل عائلته، إذ ضمن العائلة يوجد على الأقل أخواه مارتين ونيكولاس المعروفان كساردين مكرّسَين، ونشرت أيضاً ضمنها صوراً موقّعة من قبل كتّاب بارزين مثل أنطونيو غامونيدا، وإينريكي بيلا ماتاس، ومارتا سانث، وبلين بيرميخو، وراي لوريغا.

يقع الكتاب في أكثر من 500 صفحة، بمقدّمة خاصة بكل عمل، وخمس قصائد غير منشورة.


* مترجم وشاعر من المغرب

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون