استمع إلى الملخص
- **تجارب النزوح المتكررة**: يروي الكاتب تجاربه مع النزوح المتكرر من غزة إلى النصيرات وخانيونس وحدود رفح، ثم إلى تل السلطان في رفح، وأخيراً إلى دير البلح، حيث واجه ظروفاً قاسية وتحديات كبيرة.
- **الأمل في العودة**: رغم الصعوبات، يبقى الأمل في العودة إلى البيت قائماً، حيث يتمنى الكاتب أن يكون النزوح الأخير هو فعلاً الأخير، وأن يعود إلى مدينته حتى لو كانت كومة حطام.
أتأمل هذا الوقت، فلا أجد ما يليق به من كلمات... كلّ ما أشعر به هو أنني بقعة زيت، تطفو فوق سطح كبير من الماء، لا أستطيع التوغل داخله، ولا أحب البقاء فوق السطح. تتقاذفني المياه حسب حركة الريح، أتأمل هذا الوقت، أحاول ترتيبه في عقلي منذ البداية وحتى الآن، لا أنفك عن تكرار جملة واحدة. إنه حلم، بل هو كابوسٌ مخيف لا يريد أن ينتهي؛ الحرب لعينة، وتفاصيلها قذرة، قدرتنا على الاحتمال تكمن في فسحة أمل صغيرة، تعدنا بأنّ كلّ هذا سينتهي حتماً، ورغم أنه لا ينتهي، ما زلنا نبني أحلامنا على النجاة والبدء من جديد.
أيتها الحياة ألم تكتفِ بعد من وجعنا، من صرخاتنا، من تشردنا، من موتنا! ألم تكتفِ من تأرجحنا ما بين نار ونار!
عزيزي الوطن...
بما أنك أصبحت كومةً من حجارة وجثث. تغيّرت ملامحك فلم أعد أستطع التعرّف إليك، فهل لك أن تدلني على الطريق، علّني أجد ضالتي وتطمئن روحي، وأكفّ عن سماع الأنين والصراخ داخل جمجمتي؟
إنه النزوح الخامس دون الاعتياد على نمط الحياة البدائية الغريبة التي فرضت علينا. أنا المرأة المدلّلة، المرفهة التي كانت تعيش في بيت به كلّ وسائل الراحة، أتنقل بين شوارع مدينتي غزّة من بحرها إلى مطاعمها، من بيوت الأصدقاء والأقارب إلى مراكزنا الثقافية ومسرحنا وفعالياتنا. الآن أتنقل بخيمتي من شارع إلى آخر، من غزّة إلى النصيرات إلى خانيونس إلى حدود رفح!
بقعة زيت، تطفو فوق سطح كبير من الماء، لا أستطيع التوغل داخله، ولا أحب البقاء فوق السطح
حاصرتنا الدبابات الإسرائيلية في خانيونس، هربنا من وقع النيران والقصف إلى تل السلطان في رفح، فلم أجد مكاناً لخيمتنا سوى بجانب الحدود والمقبرة...
في نزوحي الثالث، وضعت خيمتي على الحدود المصرية في رفح، تلال رملية تحرقها الشمس الذهبية. صحراء ومقبرة كبيرة، الناس كثيرة، تقطن في منطقة صغيرة، الخيام متراصة وكأنها مدينة من الأقمشة. أنا التي تخاف المشي بجانب القبور كيف لي أن أضع خيمتي بالقرب منها؟!
لاحظَ حيرتي عجوز بجانبي، فنظَر لي مبتسما وقال: "ضعي خيمتك هنا. الأموات لا يؤذون أحداً، لا يعتدون على أحد، ولا تثرثر... إنهم هادئون دوماً، لن يزعجوك صدقيني!".
هززتُ رأسي، وقد استسلمت للفكرة فلا خيار آخر.
صحراء، مقبرة وحدود، قمامة كثيرة تملأ كلّ الأماكن، رائحة المجاري تعبق في المكان، قبائل من الذباب والبعوض، صوت جاري لكأنه يجلس في خيمتي، ودودة أرض تخرج معترضة... كيف لي أن أحتل أرضها؟! هي التي كانت تعيش هنا بسلام قبل أن آتي أنا وعائلتي وأقتحم خصوصيتها، أراها تمشي على مخدتي مستكشفة الضيف الجديد!
أعتذر لها، أخبرها عن قلّة حيلتي وبؤسي.
إنه النزوح الخامس دون الاعتياد على نمط الحياة البدائية الغريبة التي فرضت علينا
أتمشى ليلاً في شوارع رفح القريبة من خيمتي، وسؤال وحيد يتردد في خاطري. ما الذي أتى بي إلى هذا المكان؟ كيف لي الاستمرار في حياة بائسة لا تشبهني؟ الوجوه حولي واجمة حزينة، الناس تتراكم، تزدحم، تتدافع، السوق فارغة إلا من المعلبات، الأسعار خيالية، رمضان يقترب، لكن هناك مفاوضات جارية، وأمل ضئيل في أن نعود إلى بيوتنا في غزة. يداعبني الحلم سأعود إلى بيتي...
لا شىء يتغيّر، يأتي رمضان حزيناً وأزداد اكتئاباً، وتزداد التساؤلات في رأسي. أقرّر أن أفاجئ عائلتي في أول يوم من رمضان، وأشتري طعاماً لذيذاً كما كنت أفعل في غزة، أريدهم أن يشعروا ولو قليلاً بأن رمضان هنا يبدأ اليوم في خيمتنا... أذهب إلى السوق، أسأل عن أسعار اللحم والملوخية والسمك... يا إلهي! أسعارٌ باهظة جداً، وبدأت بحساب التكلفة وعدد الأفراد في خيمتي، وفي خيام إخوتي من حولي، فكيف لي أن أطبخ في أول يوم ولا أطعم مَن حولي، واستدركت أنني لن أستطيع طبخ وجبة الفطور الرمضاني لأنها فوق إمكاناتي المادية... عدت من السوق وأنا أجرّ أذيال خيبتي، أنظر إلى أبنائي وإلى أبناء إخوتي، وأتذكر اليوم الأول في رمضان، عندما كنا في بيوتنا... أكتم دمعتي، أريد أن أصرخ، أعترض وأهرب لكنني لا أستطيع فعل شيء سوى الاستسلام للواقع المرّ... الموت يحيط بي، أشاهد الجثث التي تصل وتدفن في المقبرة بجانبي، أسمع العويل والنواح، أرى الدموع الصامتة، أشاهد الأمهات وهن يحتضنّ جثث أبنائهن، تسقط من عيني دمعة وأتنهد، يموت أبي، لا يحتمل فكرة الخروج من المنزل وهو في هذا السن، عقله لم يستوعب ما يحدث...
قال لي قبل أن يموت بأيام: "ليتني متّ قبل أن يحدث كلّ هذا!".
مات أبي قهراً، مات حزناً على كلّ شيء.
توالت أخبار استشهاد الأقارب والجيران والأصدقاء. الأيام تمرّ رتيبة، نسعى في كلّ يوم لتوفير الطعام والماء ومتابعة الأخبار. يأتي العيد كأنه يوم عادي بلا أي مظاهر، لا كعك، لا ملابس جديدة... لا فرحة.
كلما حضرتُ مناسبة لها طقوسها وذكرياتها أكلت من قلبي قطعة حتى خلت بأنني أعتصر الحزن وأخزنه في قوارير، لأنه لم يعد هناك متسع في داخلي، تهبط مظلات المساعدات من الطائرات نراها من بعيد تسقط، أتأمل الناس وهي تجري تحاول اللحاق بها علها تفوز ببعض المعلبات أو الشاي أو السكر، لمَ علينا أن نصل إلى هذه الحال؟ لماذا تغيرت ثقافتنا في هذه الفترة القصيرة وأصبحنا نركض حتى لا نموت جوعاً؟
طائرة أخرى تحوم وتسقط منها منشورات، يتجمهر الناس ليلتقطوا بعضها وهي عادة تدعو للتحريض على المقاومة، أو تضم صوراً للأسرى الإسرائيليين للتبليغ عن مكان تواجدهم... يصاب أبنائي بمرض الكبد الوبائي ولا علاج متوفراً له، أدور حول نفسي، أبحث في السوق كمن يبحث عن إبرة بين أكوام من القش عن عسل أسود، تمر وحلويات بلا زيوت، لأنها العلاج الوحيد حالياً. أبحث عن طعام لا يؤذي كبد أبنائي فلا أجد إلا القليل، أشعر بالعجز، أراهم يتألمون وأقف منتظرة نهاية المرض بيد إلهية، ومعجزة الكون ومرور الوقت.
روتين، قلق... توتر... نركض ونركض، نعود بلا شيء، نسمع احتفالاً من هنا ومن هناك، وصوت صراخ "هدنة... هدنة"، لا شيء يتغيّر... لا هدنة جديدة ولا أمل جديداً.
العدو سيضرب رفح، ونحن سننزح من جديد وننقل خيمتنا من الحدود... الصحراء، المقابر، مجمع القمامة، لكن إلى أين؟ فلم يعد هناك مكان. وكان الخيار المتبقي هو شاطئ البحر، مكان مثالي للراحة النفسية والاسترخاء ونفض تعب الصحراء وقسوتها لكنني لست في رحلة، والحياة لا تفتح ذراعيها للبائسين، بل تزيدهم بؤساً وشقاء، ننقل خيمتنا في سيارة بأجر خيالي من رفح إلى شاطئ مواصي خانيونس في نزوحي الرابع، لكنّ البحر مزاجه سيئ، لا يرحب بنا، يهجم علينا في كلّ ليلة ويصرخ بأعلى صوته رافضاً لنا... كنت أتغنى بالبحر، أحبّه، أصادقه وأستمع لوشوشاته، أقرأ كلمات العاشقين فوق سطح مياهه...
كرهته!
أراه غولاً يريد أن يلتهمنا، يخرج السلطعون من تحت فراشنا معترضاً، ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ لم تتركوا مكاناً لي؟ أعتذر له فأنا في حال أسوأ منه، أبكي وأصرخ، لا أريد الاستمرار هنا، ملوحة البحر ورطوبته وشمسه الحارقة تقتلني، صوت هديره يملأ رأسي، يبدو أنّ مجالستي للأموات لا تتفق مع صخب البحر...
الناس هنا تغسل ملابسها وتنظّف أواني الطبخ بماء البحر ولا بديل، فمياه الشرب النظيفة بأسعار غالية، ولا تتوفر بسهولة... إنّه عالمٌ آخر منعزل، لا شيء أمامك سوى البحر، وخلفك خيامٌ متراصة متلاصقة وأناس أنهكتها الحرب والحياة.
أقرّر النزوح للمرة الخامسة إلى دير البلح، أسكن هذه المرة في أرض زراعية، بها ماء وأشجار وبعض الهدوء، أعتذر لعزيزي الخلد لأنني سكنت أرضه واقتحمت مكانه، أعتذر بشدة من النمل ومن الرمل ومن الحشرات والسحالي، لا أريد إزعاجكم. صدقوني لكنني مضطرة، مرغمة، مشرّدة.
لعله النزوح الأخير... كلي أمل بأن يكون الأخير وأعود بعده إلى بيتي حتى لو كان كومة حطام، أعود إلى مدينتي التي أعرفها وتعرفني، روحي معلّقة هناك، وأنا هنا جسد يقضي وقتاً سيئاً، مريراً، متكرراً، ينتظر توقّف هذا الزمن ورحيله إلى حيث اللاعودة. أشعر بالغربة في وطني، وطني الذي تغيّرت ملامحه ويومياته، وأصبح كومةً من الحطام والجثث، نحن الذين بقينا على قيد الحياة، نموت في كلّ ساعة، نسمع صوت القصف من حولنا، ينتفض جسدنا...
لم نمتْ بعد!
لكن إلى متى سنبقى أحياء؟ إلى متى سننتظر المصير؟ أيّ مصير مهما كان!
* رواائية من غزة