بعينٍ واحدة

24 مارس 2022
جزء من "البطل" لـ محمود صبري (العراق)، زيت على قماش، 1963
+ الخط -

كان يضعُ فردة نعلٍ في يده اليمني والأخرى في يده اليسرى، يرفع بيديه مؤخّرته ونصف جسده ويتقدّم قليلاً. ساقاه اللتان تنتهيان عند أعلى الفخذ تخطّان في الأرض مع كلّ خطوة. أحياناً لا يرفع مؤخّرته بما فيه الكفاية، فتخطّ على الأرض، ويترك خلفه مساراً واضحاً فوق التراب، أو يجرف معه النّفايات على الأسفلت. يتدحرج في الشّارع وكأنّه كيس بلاستيكي تدفعه الريح. لا يملك الجرأة على التحديق في عيون المارة وأصحاب المحلّات المنتشرة على جانبي الشارع. ينظر إليه الغرباء برأفة وشفقة، وهو يزحف بين الأقدام. ويَحدُثُ أحياناً أن يسيطر عليه التعب، يتفصّد جبينه عرقاً ويأخذ باللهاث، فيتوقّف كسيراً وسط الشارع، يحملق بنهايتي ساقيه عند الفخذ، ينظر إلى كفّيه في فردتي النّعل، أو يغمض عينيه، كأنه يختبئ خلف الظلام. يتقدّم إليه أحد الغرباء، يسأله إنْ كان يحتاج إلى المساعدة، فيتطلع إليه خضيّر "المگطّم"، كما أصبح يسمّيه أهل المحلّة، بوجه يابس وعينين كسيرتين تبرز من تحتهما عظام الوجنتين، ولكن، سرعان ما تقدحان غضباً وكأنه سينهال على الغريب بأقذع الشتائم. سوى أنّه يخفض رأسه دون أن ينبس ببنت شفة، ويجهد نفسه في دفع مؤخّرته إلى الأمام، مغادراً. فيبقى الغريب واقفاً وقد أخذته الدهشة، يتلفت يميناً وشمالاً وكأنه يبحث عن تفسير ما.

وكان يصيب خضيّر المگطّم الرعب والإرباك كلّما وقع نظره على قميص أو تيشيرت أحمر، كأنّه ثور الكوريدا. فتعود به الذاكرة إلى ذلك اليوم، حين اصطدمتْ سيّارته الحديثة بالنخلة. ثم تسحبه الذاكرة إلى الفتى ذي التيشيرت الأحمر، الّذي وقع على أسفلت الشارع، وبقعة الدم تتسع تحت رأسه. وعادة ما كان يحلم بأنّ ساقيه صحيحتان لمْ يمسسْهما سوء، فيمشي ثمّ يركض غير مصدّق. وعلى حين غرّة يظهر أمامه أحمد سليمة مرتدياً تيشيرت أحمر وحاملاً سكّيناً عظيماً، يدنو منه ويأخذ بضربه بالسكين على فخذيه. يستيقظ خضيّر مرعوباً، وكأنّ ساقيه قد بُترتا للتو.

وكان يحدث في بعض الأيام أن تصل مسامع خضيّر المگطّم، وهو يجرّ مؤخّرتهُ في الشارع، جملٌ تبدو عابرة لمَن يجهل تاريخ المحلّة، تخرج من فم شاب ينقل البضائع، أو رجل مسنّ يقدّم خدماته إلى الزبائن. جمل قصيرة مثل: "ربّك ما يضرب بعصا"، "يُمهل ولا يُهمل". أو أن ينادي أحدهم جاره في المحل المقابل: "وين راحت جناحاتك أبو حمزة؟". يطلقون تلك العبارات بعفوية وهم يمارسون أعمالهم، يمطّونها ويموسقونها. فيُطأطئ خضيّر رأسه ثم يسرع في جرّ مؤخّرته ليبتعد عن مصدر الصوت. يحاول كلّ مرة أن يغيّر طريقه المعتاد، فيسلك طرقاً فرعية، ويقوم بجولة طويلة، بدل الطريق القصيرة المباشرة، تخور بفعلها قواه ويندم على خياره. ينبذ الفكرة لأيّام طويلة، ثم يصطدم بموقف آخر، تلاحقه فيه إحدى العبارات، فيعيد الكرّة ويُعاوده الندم.

في كلّ مرة يخرج من البيت يتطلّع إلى الشارع أمامه، بضوضائه وجلبته، بفوضوية البضائع المنتشرة فوق الرصيف وزحام المارّة والروائح المختلفة. إنه ذات الشارع الذي كان يجتازه بطوله، باستقامة وخيلاء وعجرفة، وهو ينظر شزراً إلى السابلة وأصحاب المحال. ومع أنه كان متوسط الطول نحيفاً ضئيل الجسد، إلّا أنّ نظراته تُنزل الرعب في نفوس من يعرفونه؛ خضيّر حَرْبة، كما كان يُحبُّ أن يُسمّى، لا يخرج إلّا وثمة سكّين مخبّأة تحت ثيابه. لا يجرؤ احدٌ من أهل المحلّة على رفع صوته في حضرته أو إطالة النظر إليه، خوفاً من رعونته وبطشه. وجهه الأسمر النحيف اليابس، المليء بالنَّدَبات، وعظام وجنتيه الناتئة، وعيناه اللتان يتطاير منها الشرر، ترسم حول هيئته هالة من الشر والغلظة والقسوة. 

كان يصيبه الرعب والإرباك كلّما وقع نظره على قميص أحمر

جميع أهل المحلة يتذكّرون شجاراته المتعدّدة، والسكّين التي كان يسحبها من تحت القميص ويلوّح بها في الهواء، أو ينقضّ بها على أحدهم. بل ويتذكّرون أيضاً شجاراته مع زوجته، وصراخها وهي تتلقّى الصفعات والركلات منه. وكانتْ أحياناً تضطرّ إلى الهرب من البيت حاسرة الرأس، محاولةً اللجوء إلى بيت أحد الجيران، فيخرج خلفها راكضاً، يجذبها من شعرها ويُدخلها إلى الدار عنوةً. يشتدّ ضربه لها، ويعلو صراخها وصراخ وبكاء أطفالها، فيحوقل الجيران ويستغفرون وليس في أيديهم أن يفعلوا شيئاً.

على أنّ أكثر ما ترسّخ في ذاكرة المحلة هو شجاره مع أحمد سليمة، صاحب المحلّ الصغير. أحمد اليتيم الذي هجر الدراسة وأنشأ محلّاً صغيراً، استقطعه من باحة منزلهم، ليعيل منه أمه وأختيه. كان شاباً هادئ الطبع خلوقاً ومؤدّباً، يفرّ من الشجار حتّى أقاصي الأرض. وخضيّر حَرْبة المفلس، الذي كان يرسل أبناءه لبيع الأكياس البلاستيكية، كان يبتاع السجائر واحتياجاته الأخرى من أحمد سليمة بالدَّين، وينقده متى شاء وكيفما شاء. ولمّا تكدّست عليه ديون كثيرة، فكّر أحمد المسكين أن يطلب منه تسديد المبلغ، وكان قد قرّر الذهاب إلى سوق الجملة للتبضّع في اليوم التالي.

مرّ حَرْبة يومها أمام المحلّ، وكان معكّر المزاج، ولكن، أنّى لأحمد أن يدرك ذلك. كان وجه خضيّر غضوباً على الدوام، ملامحه حادة ووجه عبوس، وكأنّه في شجار أبديّ. حتّى حينما يتفجّر ضاحكاً، فإن ضحكه هستيري، كأنّه يضحك من تهديد أحدهم. ولمّا كان حَرْبة يسير على عجل، فقد اضطر أحمد إلى أن يناديه بصوت عالٍ: "خضيّر، الفلوس رحمة لوالديك". توقّف خضيّر وسط الشارع فجأة، والعيون تتطلّع إليه، فشعر بأنّ أحمد قد تجاسر عليه ووضعه في موقف محرج. مرّر يده على شعره وهو يستدير ويقترب من أحمد، ركّز نظره في عيني الشاب، فانتاب أحمد الخوف والقلق وقال بصوت خافت: "رحمة لأبيَّك، باﭼر لازم أروح أتسوگ وما عندي فلوس". 

أخذ خضيّر بخناقه وكلمات السبّ والقذع تخرج من بين أسنانه المصرورة. شعر أحمد بانقطاع أنفاسه، فبدرت منه حركة لا إرادية، إذ دفع جسد خضيّر الضئيل فسقط إلى الوراء، وهكذا تخلّص الشابّ من قبضته. صرخ خضيّر حَرْبة كحيوانٍ مفترس، واستلّ سكينه الطويلة من تحت قميصه وانقضّ بها على أحمد، ضربه عدّة مرّات صدّها بذراعه اليمنى، فتكوّر الولد على نفسه. ركله خضيّر فتدحرج على الأسفلت صارخاً، والدم يسيل من كمّ القميص. التفتَ خضيّر إلى بسطة السجائر أمام المحلّ، تناول علبتي سجائر ماركة "ماستر"، ثم ركلها فانقلبتْ وتناثرتِ العلب فوق الأرض. غادر المكان وهو يدسّ السكين في سرواله ويغطيها بالقميص، ويتلفّت إلى الخلف بين الفينة والأخرى. هبّ الناس لمساعدة أحمد، لفّوا ذراعه بـ"يشماغ" في محاولة لإيقاف نزف الدم، وحرّك أحدهم سيّارته فنقلوه إلى المستشفى على الفور. 

حاول الأطباء جهدهم في علاج الذراع، ولكن، ذهبتْ محاولاتهم سدى، إذ كان لا بدّ من بترها. لم ينفع بكاء أمّه وتوسّلها بالأطبّاء، إذ لم يكن بمقدورهم فعل شيء. جاءت الشرطة فقدّمتِ الأمّ شكوى ضد خضيّر حَرْبة، اضطرّ على إثرها إلى أنْ يغادر المحلّة ويختبئ حيث لا يعلم أحد. مرّت الشهور وأُلقي القبض عليه في نهايات عام 2015، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات، لم يقضِ منها حتّى سنة واحدة، ليخرج في العفو الذي أصدرته الحكومة في شهر آب عام 2016.

ولم تنتظر عائلة أحمد الإفراج عن خضيّر، فقد وصلتهم تهديداته حالما أُلقي القبض عليه وأودع السجن، ولم يكن لديهم شكّ بأنه سينفّذ وعيده. فتركتِ العائلةُ المحلّةَ واختفتْ، وانقطعتْ أخبارها ولم يعرفْ أحد عنها بعد ذلك شيئاً. 

تغيّرَ حال خضيّر حَرْبة بعد فترة قصيرة من إطلاق سراحه، ولا يعرف أحد من أين يأتي بالأموال. واشترى سيّارة حديثة وصار يمرّ بها في الشارع بسرعة كبيرة، تجعل أصحاب المحلّة والمارّة يتقافزون هرباً منه، وتزرع الرعب في نفوسهم، كما كانتْ تفعل نظراته من قبل. واستبدلَ سكّينه بالأسلحة الناريّة، بل صار يتاجر بها أيضاً. وأكثر ما استهواه القنّاص، فصار يتمرّس عليه في البراري والبساتين حتّى أصبح قنّاصاً ماهراً. يجُنّ جنونه وهو ينظر إلى الأشياء البعيدة فتصبح أقرب، ينظر إليها بعينٍ واحدة، ويطلق الرصاصة وكأنّه يطلقها من عينه. وأخذ يتردّدُ على بيته رجالٌ لا يختلفون عنه بالهيئة والشكل، يثيرون مخاوف أهل المحلة الذين يتهامسون بشأنهم، قائلين إنّهم لا شكّ خريجو سجون مثله. 

والحقيقة أنّ أبواب السماء فُتحتْ لخضيّر حَرْبة في السجن، إذ تعرّف إلى "الأستاذ" وصار من خاصّته، يلازمه طوال الوقت، برفقة شباب آخرين، يقومون على خدمته ودفع الشرّ عنه. وكان الأستاذ يعمل لصالح أحد الرؤوس الكبار في السلطة، لم يُفصح عنه حتّى لجلاوزته. وُجّهتْ إليه تهمة فساد وإدارة دور للدعارة وبعض الملاهي وصالات القمار في العاصمة. وقد أُفرج عنه في العفو العام، برفقة جلاوزته، مع أنّ دعاويهم كانتْ لا تخلو من إشكالات، إلّا أنّ يداً خفيّة تدخّلت في الأمر وأنهت المسألة.

مرّت الشهور وأصبح خضيّر حَرْبة أكثر سطوة وأشدّ عنفاً من ذي قبل، بل أصبحتْ سطوته رسميّة بنحوٍ ما، بعد أن انتمى هو أيضاً إلى حزب صاحبه، وربما يجدر القول إلى فصيله المسلّح. وصار يتغيّب كثيراً عن المحلّة، ولا يعرف أحد أين يمكث في ذلك الوقت. وكان الأستاذ يوكل إليه ورفاقه مهمّة جمع الأصوات في الانتخابات، أو بالأحرى شرائها، لصالح الحزب الذي ينتمون إليه. ولمّا اطمأنّ الأستاذ إلى خضيّر حَرْبة ورأى فيه الجرأة والإقدام، جعله يشارك في إدارة بعض الملاهي وصالات القمار ودور الدعارة السريّة في بغداد. تحسّنت حال خضيّر المادية وصارت الأموال تدرّ عليه من حيث لا يدري، فعمد إلى شراء بيتٍ كبيرٍ وحديث البناء في المحلّة، وأصبح يغيّر سيّارته بين مدّة وأخرى. 

يتطلّع من ناظور القنّاص إلى المتظاهرين فيراهم كسرب زرازير

أمّا اليوم فهو لا يقود سوى نصف جسد. وقد أصبح يعتمد بنحوٍ كامل على أولاده وزوجته، والذين يسومونه سوء العذاب، انتقاماً للماضي. يرافقونه إلى المرحاض، يقومون على غسله في الحمام، ويساعدونه في احتياجاته اليوميّة. ولكنّهم، في الوقت نفسه، لا يتوانون عن توبيخه وإذلاله بأبشع العبارات. ولمْ يعدِ الأستاذ يجيبه على اتصالاته المتكرّرة، ولا حتّى رفاقه الذين كانوا يقضون الليالي في بيته، في لهوٍ وشراب. جفّت منابع المال وأصبحَ لا يملك شيئاً، فاضطرّ إلى بيع بيته الجديد والعودة إلى بيته القديم المتهالك. ولم يبق له في الدّنيا سوى أفراد عائلته، يستعطفهم بالبكاء والتوسّل، وليس له سبيل عليهم كذي قبل. فَقَدَ خضيّر كلّ شيء في ليلة وضحاها، وتحوّل من حَرْبة إلى مگطّم، وصار يتلقّى الإهانة من الجميع، وكان أولاده لا يتوانون عن توبيخه حتّى أمام أهل المحلّة. ولمّا حدث، ذات يوم، أنْ صفعه أحد أبنائه على مؤخّرة رأسه أمام أنظار المارّة، فكّر خضيّر المگطّم بالانتحار، أو بالأحرى خطر بذهنه بصورة خاطفة. وحين ركّز في فكرة الموت والفناء، سيطرتْ عليه نوبة بكاء شديدة خوفاً من تلك الفكرة، وأبعدها عن ذهنه بنحو حاسم. 

وقد انقلبتْ حال خضيّر حَرْبة من شقيٍّ وأبٍ وزوجٍ شرسٍ إلى نصف رجلٍ مُهان، مع قدوم شهر تشرين الأول عام 2019. وكان خضيّر حربة جالساً، ذات يوم من أواخر ذلك الشهر، أمام التلفاز، بيده الجهاز يقلّب القنوات ويشاهد الأخبار. وقد شاهدَ أعلاماً كثيرةً في الساحات، في مختلف المدن، والشباب يحملونها ويرفرفون بها. ولم يحصل أنْ رأى خضيّر انتشار علم العراق بهذهِ الأعداد. رنّ هاتفه النقال فتطلّع إليه وإذا بالأستاذ يتّصل به. نهض من مكانه ولجأ إلى إحدى الغرف وأغلق الباب وراءه. أنصتَ إلى محدّثه بصمت، وكلّ ما كان يفعلهُ هو أنْ يهزَّ رأسه. وقد أبلغهُ الأستاذ أنّ بعض الصِّبية المارقين يريدون دخول المنطقة الخضراء ونشر الفوضى والفساد في البلاد. 

في تلكَ اللّيلة أخرجَ خضيّر حَرْبة سلاح القنّاص ونظّفه، ثمّ تناول بعض علب الرصاص، وضعها في كيسٍ أسود، ووضع السلاح والعتاد في صندوق سيّارته. استيقظ في اليوم التالي، وتوجّه إلى نقطة متّفقٍ عليها بالقرب من جسر الجمهورية من ناحية الكرخ، والتقى هناك ببعض رفاقه. وكانتْ عناصر الأمن ومكافحة الشغب مجتمعة عند بداية الجسر، تطلق قنابل الغاز المسيل للدموع على الجانب الآخر من الجسر، وصولاً إلى ساحة التحرير، في حين جموع الشباب من الجانب الآخر يحملون الأعلام ويهتفون بأصوات عالية.

وزّع خضيّر العناصر فوق البنايات العالية هناك، ثم ارتقى برفقة ثلاثة آخرين بناية عالية قرب الجسر، وصولاً إلى أعلى السطح. كانتِ الأوامر أنْ يطلقوا النار على مَنْ يتقدّم نحو الجانب الآخر من الجسر، باتّجاه المنطقة الخضراء. يتطلّع خضيّر من وراء ناظور القنّاص، بعين واحدة، إلى جموع المتظاهرين فيراهم كسرب زرازير كثيف، وكانوا قد اجتازوا أوّل جزء من الجسر، ترفرف فوق رؤوسهم وعلى أكتافهم الأعلام. فجأة لمح شابّاً يرتدي تيشيرتاً أحمرَ، يركض حاملاً العلم العراقي، يخترق دخان قنابل المسيل للدموع حتّى اجتاز منتصف الجسر، فبدأ إطلاق النار صوب ذلك الشاب. سدّدَ خضيّر قنّاصه، ثمّ أطلق الرصاصة، فرأى الشابّ يهوي على أسفلت الشارع. نظر إليه بالناظور، فشاهد رقعة الدم تتّسع تحت رأسه. تقدّم بعض الشباب وحملوا الشّاب ثمّ رموه في التُكتك الذي انطلق به صوت ساحة التحرير. تراجع المتظاهرون أيضاً، بعد أن سقط منهم بضعة قتلى وجرحى ومختنقين بفعل الدخان. رُميتِ الكثير من قنابل مسيل الدموع، وارتفع الدخان على الجانب الآخر من الجسر وفي ساحة التحرير، حتّى غاب المتظاهرون من أمام ناظور خضيّر.

كان ذلك الشّابُّ أوّلَ قتيلٍ يسقط برصاص قنّاص خضيّر، لكنّه لم يكن الأخير. لقد قتل وأصاب آخرين غيره، وبطرق مختلفة؛ منهم مَن أصابه في الصدر، ومنهم في الوجه. إلّا أنّ ذلك الشابّ أصبح لعنة تلاحقه أينما ذهب. لقد انتشرت فيديوهات وصور عنه في كلّ مواقع التواصل الاجتماعي، وشاهدها ملايين الناس. وكان خضيّر أحد أولئك المُشاهدين. شعر أوّل وهلة بالزهو، وهو يدرِكُ أنّه بطل القصّة الخفي الذي لا يعرفهُ أحد. ومع مرور الوقت، وحينَ أصبح يشاهد صور الشاب وانتشارها في كلّ مكان، بدأ يشعر بالغيظ والغضب منه، وكأنّ الشّاب هو مَن أصبح بطل الحدث، لا خضيّر. فصار يشاهده على بعض الجدران، أو على بعض الأعمدة، بل ورآه على التلفاز مرّات عديدة، وهو يقلّب القنوات. كان التيشيرت الأحمر يلاحقه في كلّ مكان، وفي كلّ حين. وذات عصرٍ من أوائل شهر تشرين الثاني تلقّى خضيّر اتّصالاً هاتفيّاً من الأستاذ أخبره فيه أنّ عليه التوجّه على الفور إلى منطقة الخلاني. وكان الاتصال قد قطع جلسة الشرب على حَرْبة، فخرج من بيته نصف سكران، استقلّ سيّارته وانطلق بسرعة قصوى. وفي الطريق لمح صورة إعلانات عظيمة الحجم، صورة بعيدة تعتلي عمارة عالية، لشابٍّ يرتدي تيشيرت أحمر. حدّق بها طويلاً بغضب شديد، وخُيّل إليه أنّه الشاب الّذي أطلق عليه الرصاص، ولم يدرك أنّه أخذ ينحرفُ عن مساره صوب المسار المعاكس. أدرك ذلك حين سمع بوق السيّارة القادمة من الجانب الآخر، فارتبك وحرفَ سيّارته بقوّة، فقدَ السيطرة على السيّارة واتّجه صوب نخلة شاهقة. ارتطمت السيّارة بالنخلة، وكان صوت الارتطام العنيف آخر ما سمعه خضيّر حَرْبة.

استيقظ في اليوم التالي في المستشفى، وهو يشعر بخدر في ساقيه، أو هكذا خيّل له. رفع الغطاء فصدمه هول المنظر: كانت ساقاه تنتهيان عند مقدّمة الفخذ. شعر بأنّ هوّةً ما تبتلعه، أمسك رأسه بيديه وانفجر بالبكاء والعويل. خرج من المستشفى، بعد بضعة أيّام، برفقة زوجته، يدفعه أحد أولاده على كرسيّ متحرّك تابع للمستشفى. وحين وصل إلى التكسي وهو لا يعرف كيف يفعل ليستقلّ السيّارة في ذلك الوضع، انهمرتْ دموعه وهو يتطلّع إلى زوجته. في تلك اللحظة أدركت المرأة مدى ضعفه وانهزامه، فقالت له متشجّعة من الموقف، ولم تقل ذلك من قبل: "گبر طمّك، هاي تاليها، تبـﭼـي مثل النّسوان؟". 
وكانتْ تلك البداية فقط.


*شاعر وكاتب ومترجم عراقي

المساهمون