في الربع الأخير من القرن الرابع الميلادي؛ شاعت أفكار الزهد في أوساط الكنيسة الكاثوليكية، وخصوصاً في المدن المترفة، مثل روما وفلورنسا وميلانو، حيث كانت المشاعر الدينية في أوجها، وبدت كأنها محاولة للتطهر من التقاليد الرومانية المغرقة في ماديتها. وكانت تعاليم القديسين أمبروزو وجيروم حول حياة الترهب قد أسرت عقول المؤمنين الجدد، ومن هؤلاء كانت ثمة نساء ثريات ينتمين إلى أسر رومانية عريقة. بعضهن اخترن أن يكرسن حياتهن للمناسبات الدينية، وثروتهن للأعمال الخيرية، بينما اختارت أخريات حياة العزلة في أماكن مرتبطة بحياة السيد المسيح، أو القيام برحلات طويلة إلى أماكن كانت مسرحاً لأحداث الكتاب المقدس.
وتعد القديسة باولا، مثالاً معبراً عن أولئك النسوة السالكات طريق الزهد؛ إذ كانت تنتمي إلى سلالة رومانية قديمة وتمتلك ثروة طائلة وموقعاً اجتماعياً رفيعاً. ويبدو أنها استضافت القديس أبيفانيوس، أسقف سالاميس، صاحب كتاب الهرطقات الشهير، والقديس بولينوس أسقف أنطاكية، خلال مشاركتهما في مجمع روما المسكوني الذي عقد برعاية البابا داماسيوس، قد تأثرت بأحاديث هؤلاء القديسين الذين يعدون من آباء الكنيسة، وصارت تتجه بأفكارها نحو المشرق. ولذلك حزمت أمرها في ربيع عام 382 م، وقررت مرافقة هؤلاء القديسين إلى الشرق، فوزعت ثروتها على أسرتها، وأخذت معها ابنتها الوحيدة أوستوشيوم، وركبت البحر في رحلة حج استمرت عامين، ولكنها لم تعد إلى روما، إذ قررت البقاء في بيت لحم لعشرين سنة حتى ماتت عن عمر يناهز ستة وخمسين عاماً.
ورغم ضآلة القيمة الجغرافية لهذه الرحلة، فإنها تزودنا ببعض التفاصيل الجديدة، ومنها وجود قبر لهيلانة ملكة حدياب، في موقع ما يسمى اليوم "قبور الملوك" في نهاية شارع صلاح الدين، على بعد نحو 700 متر شمال البلدة القديمة، وعدم ذكرها للكنيسة التي بناها الإمبراطور قسطنطين في بيت لحم على مغارة مولد المسيح.
وقد أشاد القديس جيروم بدأب القديسة باولا وصبرها، وقدرتها العظيمة على الإدارة، وقال أيضاً إنها كانت ذات مقدرة على تعلم اللغات، إذ تعلمت العبرية، وكانت قادرة على إنشاد المزامير بلغتها الأصلية. وخلال إقامتها في بيت لحم أنفقت كل ثروتها في الأعمال الخيرية، وفي تشييد المباني لخدمة الرهبان والزوار، وفارقت الحياة وهي غارقة في الديون، ودفنت في "مغارة الميلاد".
معلوماتنا عن هذه الرحلة مستقاة مما كتبه القديس جيروم، ومن رسالة مطولة وجهتها باولا إلى صديقتها مارشيلا، وهي سيدة رومانية ثرية من عائلة شهيرة؛ تأثرت بتعاليم اللاهوتي الإسكندري أثناسيوس، عندما كان منفياً في روما، ويعتقد أنها السيدة الأولى في روما التي تسير في طريق الرهبنة؛ وأصبح قصرها وكأنه دير مكرس لدراسة الكتاب المقدس والمزامير والصلاة. وكانت تعقد فيه اجتماعات يومية، كان جيروم يشرح فيها الكتاب المقدس لدائرة من سيدات النبلاء، ومن بين هؤلاء كانت باولا وأوستوشيوم.
مسار الرحلة
انطلقت باولا في رحلتها من روما، ونزلت إلى مرفأ أوستيا، ومن هناك ودعت أطفالها وأقاربها وأبحرت باتجاه قبرص. وتوقفت في استراحات متتالية في بونزا، ومودون، ورودس، وربما في باتارا، في ليقيا. وبعد وصولها إلى قبرص، قضت ردحاً من الزمن تزور الأديرة العديدة في الجزيرة.
من قبرص أبحرت إلى سلوقية، بالقرب من مصب نهر العاصي، والتي تسمى اليوم ميناء السويدية في لواء اسكندرونة، ومنها انتقلت إلى أنطاكية، فأقامت فترة قصيرة سافرت بعدها في منتصف الشتاء عبر سورية إلى بيروت. ومن هناك أخذت الطريق الساحلي إلى عكا، ومنها تركت الساحل، سارت في طريق مرج ابن عامر واللجون، ومن ثم عبرت التلال إلى قيصرية فلسطين على الساحل مرة أخرى.
وبعد ذلك زارت مدينة أنتيباتر، والتي تقع حالياً شمالي يافا، عند مصب نهر العوجا الذي يسميه الجغرافيون العرب نهر أبي فطرس. ثم زارت اللد قبل أن تصل إلى يافا. من هذا المكان توجهت إلى نيكوبوليس، المعروفة في المصادر العربية باسم عمواس. ومن هناك سارت بالطريق الروماني عبر بيت حورون إلى جبعة، واستراحت هناك قليلاً قبل أن تواصل رحلتها إلى القدس عبر طريق الشمال الذي يمر بالقرب من قبر هيلانة ملكة حدياب، والذي يسمى الآن "مقابر الملوك"، فدخلت إلى القدس من باب العمود.
في القدس، رفضت باولا دعوة للإقامة في قاعة الشرف المخصصة لعلية القوم، وفضلت المكوث في صومعة متواضعة، لأنها كانت تدرك أن روح الحج الحقيقية تقتضي منها المعاناة. وقد تحدثت عن خشبة الصليب، والقبر المقدس، والحجر الذي دحرج بعيداً عن القبر، والكنيسة على جبل صهيون، وعمود الجلد في رواق الكنيسة، والمكان الذي نزل فيه الروح القدس على تلاميذ يسوع الاثني عشر. وربما يُستدل من إشارة باولا إلى أن البوابات "تحولت إلى رماد"، أنه في وقت زيارتها، كان الجدار القديم في صهيون لا يزال كومة من الأنقاض، ولم تتم إعادة بنائه بعد.
من القدس، انطلقت باولا، إلى قبر راحيل، ثم بيت لحم، حيث زارت "مغارة المخلص"، وشاهدت النزل، والإسطبل، والمذود؛ ثم ذهبت إلى بيت ساحور حيث كان الرعاة يبيتون في البرية، ويتناوبون السهر ليلاً على رعيتهم، وبعد ذلك مرت بجانب ينبوع فيليب في بيت صور؛ ثم زارت بلوطات ممرا في الخليل. وفي رحلة عودتها إلى القدس، زارت كفر باروخا، التي تسمى اليوم بني نعيم، حيث رأت من بعيد بلد سدوم وعمورة على البحر الميت.
أعراق مختلفة
كتبت باولا لصديقتها مارشيلا تصف الأعراق المختلفة التي صادفتها في القدس: "لقد جئنا إلى هذه الأماكن، ليس كأشخاص مهمين، ولكن كغرباء، حتى نرى فيها الرجال المباركين من جميع الأمم. وبالفعل، فإن رفقة الرهبان والراهبات جوهرة ثمينة بين زخارف الكنيسة. من أي مكان أتى هؤلاء الرجال المباركون، ثمة رجل أسرع إلى هنا من بلاد الغال، وبريطاني منفصل عن عالمنا ترك شمس المغرب، وأتى يبحث عن مكان لا يعرفه إلا بالشهرة من خلال الكتاب المقدس. لماذا نحتاج إلى الحديث عن الأرمن، والفرس، وأمم الهند، وإثيوبيا، والدول المجاورة لمصر التي يكثر فيها الرهبان، والبنطس، وقبادوقيا، وسورية المجوفة، وبلاد ما بين النهرين، وجميع شعوب الشرق، الذين يتدفقون على هذه الأمكنة ونرى فيهم أمثلة من التميز المتنوع".
وتضيف: "كلامهم مختلف لكن دينهم واحد. ثمة عدد من جوقات منشدي المزامير بلغات الأمم المختلفة، ومن بين كل هذا نجد ما هو أعظم فضيلة بين المسيحيين؛ لا غطرسة، ولا كبرياء. كلهم يتنافسون مع بعضهم البعض في التواضع. من هو الأخير يحسب كأول. في لباسهم لا تمييز ولا تفاخر. الترتيب الذي يسيرون فيه في الموكب لا يعني الخزي ولا يمنح الشرف. الصوم أيضاً لا يملأ أحداً بالكبرياء، والامتناع عن المضاجعة لا يُثني عليه أحد. كل إنسان قائم أو ساقط حسب دينونة ربه. لا يدين إنسان إنساناً آخر لئلا يدينه الرب. وهنا لا تجدين ممارسة الغيبة الشائعة جداً في معظم البلدان. هو مكان بعيد عن الترف والانغماس في اللذات".
الاستقرار في بيت لحم
حدث انقطاع في رواية الرحلة بعد الحديث عن زيارة الإسكندرية، إذ استؤنفت الرواية في سوكوت (الشويكة). ومن المحتمل أن تكون باولا قد عادت إلى القدس من الطريق الشمالية، ومن هناك تقدمت إلى سوكوت على طريق غزة. وربما لم يعتقد جيروم أنه من الضروري وصف مدن معروفة للمرة الثانية، مثل السامرة وشكيم وبيت إيل وبيت لحم، والتي كان قد أشار إليها مسبقاً.
من الشويكة ذهبت باولا إلى عين شمشون، بالقرب من بيت جبرين، ثم سافرت عبر صحراء النقب وسيناء إلى فرع النيل البيلوزي الذي اختفى الآن. ومرت بعد ذلك بأرض جاسان وسهول تنيس في طريقها إلى الإسكندرية، حيث زارت القديس آمون في نيتريا، المعروفة حاليا باسم وادي أبو حبيب، جنوبي بحيرة مريوط، حيث كان الراهب آمون قد اجترح لنفسه مكانة مميزة في طريق الرهبنة، حين آخى زوجته.
من الإسكندرية عادت إلى فلسطين في سفينة من ميناء بيلوسيوم الذي يسمى في المصادر العربية بالفرما، وأبحرت إلى المجمَّع وهو على الأرجح ميناء في غزة. ومن هذا الميناء، ذهبت إلى بيت لحم، وهناك، على مدى السنوات الثلاث التالية، كانت مشغولة ببناء الصوامع والأديرة ونزل الحجاج.
وقد كتبت عن بيت لحم ما يلي: "في قرية المسيح كل شيء ريفي، أينما تديرين وجهك يغني الفلاح ممسكًا بذراع المحراث، هللويا؛ مسلياً نفسه بالمزامير، يغني بعض ترانيم داود بينما هو يقطع الكرمة بمنجله. هذه هي أغاني هذا البلد، هذه هي أغاني الحب، كما يطلق عليها عادة؛ هذه نايات الرعاة. في الواقع، نحن لا نفكر فيما ننظر إليه، ولكننا نرى فقط ما نتوق إليه".
وأضافت: "هناك العديد من أماكن الصلاة، بحيث لا يكفي يوم واحد لزيارتها جميعاً. بأي كلمات وبأي صوت يمكننا أن نصف لكم مغارة المخلص؟ هذا المذود أيضًا، حيث يبكي الطفل، يتم تكريمه بالصمت. أين الأروقة الفسيحة؟ أين السقوف المذهبة؟ أين المقابر التي شيدها الرجال الأثرياء على شاكلة القصور، بحيث يمكن لجثة الإنسان الحقيرة أن تنقل إلى مكان مكلف، وتنظر إلى سقف المدفن بدلاً من السماء، كما لو أن أي شيء يمكن أن يكون أجمل من الخلق؟ هنا في هذه الزاوية الصغيرة من الأرض ولد مخلصنا. هنا كان ملفوفاً بالقماط، ونظر إليه الرعاة، وأظهره النجم، وعبده الحكماء. هذا المكان، بحسب تصوري، هو أكثر قداسة من صخرة تاربيا (وهي مكان مقدس عند الرومان عند الجرف الجنوبي لتل كابيتولينا في روما) التي تعرضت كثيراً للصواعق، في دليل على أنها لا ترضي الله".
دعوة لمارشيلا
وفي رسالتها المفعمة بالمشاعر الجياشة خاطبت صديقتها مارشيلا: "متى سيأتي ذلك الوقت عندما ينقل لنا رسول وهو يلهث بأنك وصلت إلى شاطئ فلسطين؟ وجميع جوقات الرهبان تنشد، وحشود الراهبات تصفق؟ نحن حريصون على أن نبدأ، وعلى الرغم من عدم توقع أي سفينة، إلا أننا نرغب في الركض للقائها. سنشبك يديك، وننظر إلى وجهك، وبالكاد سنكون قادرين على الإفلات من معانقتك التي انتظرناها طويلاً. متى يأتي ذلك اليوم، عندما نكون قادرين على دخول معاً مغارة مخلصنا؟ لنبكي مع أختنا وأمنا عند قبر الرب؟ وعلى جبل الزيتون مع مخلصنا الصاعد إلى السماء لنوفي نذورنا..".