بحثاً عن خاتمة

15 ديسمبر 2024
من تشييع مازن الحمادة في دمشق، 11 كانون الأول/ ديسمبر، 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يحتفل السوريون بانتهاء حقبة الأسد، معبرين عن الفرح والتفاؤل بمستقبل أفضل بعد عقود من العنف والقهر، مما يفتح أبواب الأمل.
- يتلقى السوريون التهاني من العرب، حيث يشعر الجميع بأن الكابوس السوري كان عابرًا للحدود، لكن يبقى القلق حول ما إذا كانت هذه النهاية حقيقية.
- رغم الاحتفالات، لا يزال العديد من السوريين يعانون، مع بقاء المعتقلين مجهولي المصير وعائلاتهم في انتظار مؤلم، مما يعكس تعقيد الوضع السوري الحالي.

يبارك السوريّون بعضهم بعضاً وكأنّهم في عيد. ليست التبريكات محض كلام منطوق بحُكم العادة أو التهذيب أو رسالة جماعية لجميع جهات الاتصال، بل هو كلام القلب للقلب، إذ انزاحت الغمّة بعد أكثر من نصف قرن. انتهى عصر الأسد، وسورية الأسد، ويرى معظم السوريين أنّ هذه النهاية تستحق تبريكات لا تُحصى من دون انشغال بالتفكير بما سيحدث لاحقاً، وكأنّ السوريّين يدركون أنّ الأسوأ قد انقضى، أسوأ ما يمكن عيشه أو تخيّله أو تصوّره، ولن يكون الغد قاتماً للمرة الأولى منذ عقود مديدة، بل ثمة غدٌ أصلاً، وإمكانية حلم؛ غدٌ كان يقع في خانة التفكير المستحيل، فغد سورية الأسد كحاضرها وماضيها، دائرة عنف وشرّ وقهر عصيّة على الانتهاء.

ويبارك لنا عرب من بلدان عديدة بعضُها لم يزرها بشار ولا أبوه، وربما لا يعلمان بوجودها؛ ألم يحذف وزير خارجيّة الابن أوروبا عن الخريطة؟ يباركون لنا بصدق وبفرح، في مواقع التواصل وفي الشوارع وفي محلات البقالة. تنهمر التبريكات ما إن يعلموا بأننا سوريّون، وكأنّ سوريّتنا لم تكن لتكتمل لو لم يتبدّد الكابوس. أيّ كابوس عشناه! أيّ كابوس عاشه حتّى من لم يعرفه! أردّ على التبريكات بمبروك علينا كلّنا، فهذا الكابوس عابر للقوميات وللدول، مثل طاعون القرون الوسطى. تلك نهاية الكابوس، ولكن هل هي خاتمته؟

يدرك السوريون أنّ الأسوأ قد انقضى، أسوأ ما يمكن عيشه

لا تستلزم النهايات بدايات جديدة بعدها بالضرورة، فالمهم هو الخلاص مما كان، لا الشّروع بما سيأتي. بينما الخاتمة نهاية من نوع آخر، نهاية مرتبطة ببداية بالضرورة، نهاية مرحلة وبداية أُخرى. ولو استعرنا القاموس السيكولوجيّ، تفترض الخاتمة نهاية مرحلة تخبّط أو قلق أو غموض، تمهيداً لـ "المضيّ"، لـ "الاستمرار"، لـ "المواصلة". ولقد شهدنا نهايةً في سورية اكتفى بها معظم الناس، غير أنّ ثمة من لم يصل إلى خاتمة همومه بعد، ولذا فهم ما يزالون عالقين في برزخ مرعب؛ لا هم قادرون على الفرح كما الجميع، ولا هم راغبون بإشاعة حزن كي لا يخرّبوا فرح الآخرين. برزخ قاتل تمرّ فيه الدقائق ببطء يسحق القلب والأعصاب.

ليس البرزخ مرتبطاً بما سيحدث في "اليوم التالي"، فهذا موضوع شائك طويل يحاول السوريّون اليوم تأجيله. البرزخ الذي أعنيه هنا، برزخ شخصيّ، جوّانيّ، جسديّ، عقليّ، لا يمكن أن يكون فيه "يوم تالٍ"، لأنّ أصحابه ما يزالون عالقين في هذا اليوم، في الحاضر، كما كانوا قبل رحيل الكابوس. برزخ المسالخ البشرية التي رأتها الكاميرات للمرة الأولى منذ عقود. كُسرت الأقفال وكانت دفقة الأدرينالين مرعبة من فرط قوّتها إلى درجة أنّها أعمتنا جميعاً عن جوهر وجود هذا النّظام. كنّا نظنّ، أو نأمل (فالمناسبة مفرحة وما عاد للحزن مكان في سورية الجديدة) أن تُكسَر الأبواب وتنقلب التراجيديا إلى حكاية خرافية تجتمع فيها العائلات بمفقوديها الذين اختفى بعضهم منذ عقود.

كُسر باب المسلخ فلطمتنا الحقيقة المرّة. ما من مسلخ يبشّر بحكاية خرافية، فنحن هنا أمام الحقيقة العارية: نظامٌ سجّانٌ يُقفل على كنزه بقوة، كنزه الذي ليس إلا أجساد مواطنيه كي يقايض أو يساوم حين تُتاح له الفرصة، وكي يتخلّص منهم حين يُمحى جوهر وجوده. إنْ سقط السجّان، سيحترق السّجن بما وبمن فيه. من بين عشرات الآلاف لم يخرج إلا مئات رضي أهلهم بنهاية حزينة، برغم القهر والألم وآثار مرور النّظام على أجساد أبنائهم.

تواصلت الاحتفالات والتبريكات، وإنْ بمعزل عن عشرات الآلاف الذين ما عاد لهم أثرٌ واضح، وتركوا أحبّاءهم في برزخ القلق والترقّب المرّ. ما يزال معظم المعتقلين بلا أثر، فلا خاتمة لأحبائهم. سيبقون عالقين بانتظار ما لا يعرفون، وقد أنهكهم الأمل أكثر مما أنهكتهم سنوات القهر. هل بقيت أبواب لتُكسَر أصلاً؟ وهل للأمل باب نكسره ونختتم ألمنا؟ 

ووُجِد بعضهم جثثاً، ولكن أهي خاتمة حقاً؟ أيّ خاتمة تلك حين بات مدمنو فيتيش الدم والأجساد المشوّهة يعيدون نشر الصور وكأنها صور ورود؟ أيّ خاتمة لمازن الحمادة وأهله مثلاً، وقد تذكّروا انكساره وهو حيّ، وانكساره وقد تأكّد موته اليوم، وانكسار جسده الممزّق، وانكساره حين ظنّ أنّه نجا وسعى إلى خاتمة عبثية، فنبذته أوروبا كما نبذته بلاده، وباتت الخاتمة برزخاً في ذاتها، برزخاً لانهائياً من الأوجاع. 

تمنّى البعض لو أنّ كسر الأقفال كان قبل أسبوع، إذ كان مازن حياً حينها، غير أنّ نظراته التي تخترق الشاشات والذاكرة تؤنّبنا كيلا نزرع أملاً عبثياً يشلّ أحبابه. هو محكوم بلعنة برزخ لا خاتمة له، كمدينته دير الزور، كأهلها، كباديتها القاحلة المرمية عند كتف نهر. مرمية هناك في الشرق، حيث لا خاتمة. مرمية هناك في الفرات الذي نسي أيام جبروته وبات هو أيضاً عالقاً في برزخ ما كان، لا ما سيكون.


* كاتب ومترجم سوري

موقف
التحديثات الحية
المساهمون