باسم خندقجي.. الكتابة من المسافة صفر

10 مايو 2024
الكاتبة سامية عيسى في "حديث الألِف" وصورة باسم خندقجي في الخلفية (حسين بيضون)
+ الخط -
اظهر الملخص
- "قناع بلون السماء" رواية تغوص في الهوية الفلسطينية الممزقة بفعل الاحتلال، مستلهمة من واقع حي الشيخ جرَّاح 2021، تبرز الصراع الفلسطيني من خلال بطل ينتحل هوية مستوطن للوصول إلى أرضه.
- تعكس الرواية التعقيدات النفسية والاجتماعية للفلسطينيين تحت الاحتلال، مستخدمة قناع المستوطن كأداة نضال لاستعادة الرواية الفلسطينية، وتطرح تساؤلات حول الانتماء والأصالة.
- تختتم بتأكيد على أهمية الصوت الفلسطيني الأصيل والنضال من أجل الهوية، من خلال شخصية سماء التي تعبر عن الواقع الفلسطيني بصدق، مؤكدة استمرار النضال ضد محاولات محو الهوية الفلسطينية.

"قناع بلون السماء" للروائي الفلسطيني الأسير باسم خندقجي (1983) روايةٌ من الداخل، ليسَ من داخل فلسطين المحتلة فقط، وليس لأنَّها خرجت من سجون الاحتلال، بل هي روايةٌ تقرأ فلسطين بصوتٍ يخرجُ من عمق الذات الفلسطينيّة التي فصمها واقع الاحتلال. إنَّها كتابة من المسافة صفر.

من لحظة راهنة، هي أحداث حي الشيخ جرَّاح (2021)، يقرأ خندقجي حكاية فلسطين، وما إن نعرف أنَّ بطل الرواية يعمل في الآثار، ويشتغل على رواية عن مريم المجدليَّة، حتى ندرك أنَّها حكاية لصيقة بالتاريخ كلّه. التاريخ الذي يؤرّق الراوي كي يعيد إخراجَ نقاط مهملة منه. 

ينتحل بطل الحكاية الفلسطيني هويةَ مستوطن إسرائيلي، والصراعات التي تشتمل على الرواية، هي صراعات الواقع الفلسطيني بكل تعقيداته. إذ ينتحل الفلسطيني هوية المستوطن؛ كي يستطيع التجوَّل في بلده، والوصول إلى أرضِ روايته التاريخية، حيثُ المستوطنة التي بناها الصهاينة على أنقاض قرية عربية قرب القدس. 

تفسير للواقع أمام اتّساع المأساة واتّساع عملية السطو

إذاً، من استخدام نور لهوية مستوطن يُدعى أور يبدأ شِقاق الهوية بالتأثير على مجمل الحكاية، وبدا أنَّ للداخل الفلسطيني الذي يعيش واقع الاحتلال هويتين؛ إحداهما تريد أن تطحن الأخرى، إحداهما نشأت من قتلِ أخرى. إحداهما مزيَّفةٌ لا تشعر بالانتماء، ولا بأهمية الهوية بالمبدأ. وأخرى فلسطينيَّة تدافع عن وجودها، وتحاول استعادة وجهها الأصلي. فالهوية التي وجدها نور، سُرعان ما صارت قناعاً. لكن يؤكد الراوي، ليسَ ذلك القناع الأبيض الذي يرتديه الرجل الأسود كي يشعر بالانتماء إلى المُستَعمِر، وكي يَقبل بهِ المُستعمِر، وإنَّما هو قناع لاستعادةِ رواية المُسْتعمَرين، قناعٌ أشبه بأداةٍ للنزال، لا للتزلّف أو التماهي مع القتلة. 

لكن مصير القناع، مهما كان، أن تنتهي صلاحية استخدامه، أن يتقادم، أن يسقط. ويختار خندقجي، كي يُسقِط القناع، وليستعيدَ بطله صورته وأصالته؛ أن يواجهه مع وجهٍ فلسطيني آخر، مع سماء إسماعيل، البنت الفلسطينيَّة القادمة من حيفا، البنت العربية التي تنضم إلى فريق التنقيب إلى جانب (أور/ نور) برفقة عدد من الجنسيات الأوروبية، والفتاة الإسرائيلية. وضمن هذا التعدّد، تكون لغة سماء هي الأوضح، ويكون للحقائق التي تحكيها عن الهولوكوست الذي يقوم به الصهاينة يوميّاً ضدَّ الفلسطينيّين الصوت الأعلى. 

حتى إنَّ صوتها كان الأعلى على الصوت الفلسطيني الذي استخدم قناعاً كي يستطيع تدبَّر العيش في واقع الاحتلال. وما أسقط قناع نور، ليست عاطفته لسماء، ولا هوسه بها، بل صوتها، جدارتها، أحقيّتها، وهي تعبيرٌ مباشرٌ عن فلسطين التي لا تموت، ولا تتلوَّن، ولا تغيّر وجهها. 

تبقى الكتابة عن المجدليَّة مشروعاً يتحدّث عنه نور ويخطط له ويفكر كيف سيكون وكيف سيكتب. لكن فعلياً، لا تتعدى روايته عن مريم المجدليَّة، كونها ذريعة يتعلَّل بها كي يقول الحكاية التي أراد كتابتها، والرواية التاريخيَّة قناعٌ سردي لحكايته المعاصرة التي ترتبط بتمزّق الأرض، وبتمزّق الفلسطينيّين بفعل الاحتلال الذي سرق البيوت، وسرق الهوية ويستمر بتجريب السطو على التاريخ.

قناع بلون السماء - القسم الثقافي

إن محاولات نور لكتابة الرواية، لا تتعدى كونها محاولة للوصول إلى ذاتيَّته الفلسطينية التي لم يخربها الاحتلال. إنَّها طريقة للتشافي. وهي ليست هروباً من واقع الاحتلال، بقدرِ ما هي محاولة تجاهل، محاولة كي تستقيم الحياة في بلدٍ محتل، لا سبيل لأن تكون الحياةُ فيه حياةً طبيعيَّة؛ ببساطة لأنَّ الاحتلال قائم، ولأنَّ الاحتلال هو المشكلة، وهو الأزمة التي لا تبقى عامّة، بل تنتهي لأن تكون أزمة شخصية مع واقع فرضه الاحتلال. 

يذهب المرء إلى هذا الاعتقاد، بأنَّ الرواية عن المجدليَّة ليست أكثر من وسيلة لقهر واقعٍ قاسٍ، عبر الاستعانة بشخصية مراد، الأسير، وهو صديق نور خلف قضبان الصهاينة، يرسل الكتب إليه، يكتب له، ويخبره عن روايته، وكأنَّه يرفع تقريره الخاص إلى جهة يريد منها أن تعطيه شرعيَّة. وهذه الشرعية التي يعوزها نور ممن هو خلف القضبان، هي شرعيةُ مَن قرَّر أن يقاوم، ومن رفض الاحتلال بوضوح. 

بمؤازرة هذه الثنائية الواضحة للصديق المقاوم، وللفتاة المقاومة؛ يتكشف القناع الذي لجأ إليه نور، كي يستطيع العيش وسط صعوبات الاحتلال. يتكشف قناعه عن وهم إمكانيَّة هذا العيش، فالاحتلال يرفض الفلسطيني بتعريفه فلسطينيّاً. كما يلمح القارئ وهماً آخر تفتّته الرواية، وهو وهم التسوية السياسيَّة مع الاحتلال بالصورة التي هو عليها. كما أنَّ النص في جوهره، رفضٌ للهوية التي يريد الاحتلال فرضها على الفلسطينيّين؛ وما تأزم شخصية نور إلا تأزّم للشخصية الفلسطينية التي اعتقدت بإمكانية العيش مع الاحتلال. أقصد، العيش العادي الذي يتجاوز على المجازر، يتجاوز على العنصرية، يتجاوز على التطهير العرقي. هذا وهمٌ تنسفه الرواية. إذ يلقي نور نجمة داوود عن صدره، ويمزَّق هوية المستوطن التي انتحلها، ليخرج من تلك التورية بالكامل، وهو إلى جوار سماء في السيارة خارجاً من موقع التنقيب.

هذه اللحظة الانفعالية التي تحدث في النهاية تقدم إحدى حقائق الشخصية. بالمثل، ذلك الوشم "حيفا 1948" الذي وشمته سماء على ساعدها. مواقفُ تمثّلُ تعريفاً لهذه الشخصيات التي وجدت نفسها تعيش في بلدها، مع عصاباتٍ تهدم بلدها، تجرفه، وقد زرعوا الغابات فوق المقابر الجماعية. 

الرواية التي حصلت على "الجائزة العالمية للرواية العربية" (البوكر) لدورة هذا العام، والصادرة عن دار الآداب (2023) نصٌ قاسٍ، لأنَّه خرجَ من واقعٍ قاسٍ، وما قد يعتقده الناقد تأويلاتٍ ورموزاً، لا يعدو كونه مفردات الواقع الفلسطيني ذاته، حيثُ جاء محتلون كي يفرضوا سردية تاريخيَّة مزيفة على بلدٍ بأسره. ومفهومٌ أن يعود نور للبحث عن يسوع، وعن تلامذته، وعن المجدليَّة. وكأنَّما أمام اتّساع المأساة، واتّساع أمداء عملية السطو احتاج نور تفسيراً للواقع، وقرر أن يستلفه من صَلب "ابن الله". 


* روائي من سورية
 

المساهمون