انتماءات

21 نوفمبر 2022
"درس في الطيران - رقم 12"، هاني زعرب، أكريليك وأصباغ على قماش، 2013
+ الخط -

أَمّا الأمازونيات فقد كُنّ يتعبَّدن إله الحرب وإله الصيد، وهُنّ نساءٌ محاربات وعاشقات للحرب. كُنّ يُقطعن الثدي الأيمن، كي يَسهل عليهن حمل القوس وإطلاق السهام. وكُنّ بهذه الصورة، وكأنّهن يطعمن الحرب، وكأنّ الحرب أحد أطفالهن. وقيل إنّ هرقل قَتل ملكتهن هيبوليتا. وفي رواية أُخرى، هو فقط أخذ حزامها في مهمّته التاسعة، والحزام رمز قوّتها الذي وهبها إياه إله الصيد.
 
بعد هزيمتها جهزت هيبوليتا جيشاً للانتقام. لكنها قُتلت عن طريق الخطأ، وأختها الملكة بنثسيليا هي التي قتلتها. ومن ثمّ مدفوعة بروح الغضب الذي كان يعتمر داخل الأخت المغدورة، إلى جانب مرارة قتلها لأختها عن طريق الخطأ، شاركت بنثسيليا في حرب طروادة وقاتلت ببسالة، إلى أن قتلها أخيل مع أنّه أحبّها لجمالها. وثمة رواية مفادها أنّ أخيل أحبّ الجميلة بنثسيليا بعد أن قتلها. باختصار، هذه سردية الحرب الخالدة. السردية التي نطقتها مؤخرًا الأرض هنا، في مدينة وسط سورية.

■■■

بعد 1600 عام من عمرها خرجت اللوحة من الأرض، كي تخبرنا عن حروب الأمازونيات مع هرقل وأخيل. ولتصبح الصورة أوضح، فاللوحة خرجت من أرضٍ صارت كنايةً عن الحرب، والانتماء إليها كنايةً عن اللجوء. وتقصّ اللوحة التي اكتُشفت الشهر الفائت في مدينة الرستن السورية، حكايتَي القتل؛ قتل هرقل لهيبولينا وسرقة حزامها، وقتل أخيل لبنثسيليا الجميلة التي أحبّها. وكأنّما المشترك بين الأزمنة، هو الحرب والإدراك المتأخّر للحب، الإدراك الذي يحدثهُ الموت.

شعور بأنّك مغادر إذ لم تلتمس منذ البدء عمق الإقامة

والمشترك أيضاً وأد الجمال، الذي ينتقم بصورة دائمة عبر الفنّ، وبالاستعانة به كي يُعيد الرواية، ويعيد إخراج الواقعة التي تنطوي على القتل إلى الحياة. الفنّ هنا منسي، مركونٌ تحت المكان، لكنه حاضر. ويمكن أن يُقرأ الانتماء للمكان على أنّه حبّ غير مدرك، انتماء لفنٍ مخبوء، لجمالٍ مقتول. ثمّ يمكن لأيّ منّا أن يسوّغ بقاءه على طريقته طالما شهدنا أزمنةً احتجنا فيها إلى تبرير البقاء.

■■■

لكن يصعب عليك تسويغ بقائك بأنّك تنتمي إلى المكان، لأنّ الانتماء إلى شيء يقتضي حدوثَ مسافة عنه، كي تندفع عائداً إليه، إذ تتشكّل الرغبة بالانتماء عبر الابتعاد. وأخالُ، كي يشعر أحدنا بالانتماء إلى مكان ينبغي عليه أن يغادره أولًا، كي يختبر طبيعة انتمائه، كي يعي إن كان انتماؤه حقيقيّاً، إذ لربما زيّفته الحروب كما حدّدت طبيعته الأنظمة.
 
لا تنس أنّ انتماءك الذي لا تدركه للمكان، هو انتماءٌ نشأ تحت الخطر. لا، بل هو انتماء صنعه الخطر. وليس من المجازفة القول، إنّه انتماءٌ للخطر. خطر أن تنطق لأنّك بالنطق، تكسرُ صمتاً. لا صمت المقابر، كما شاعت الاستعارة في الأدب، وإنّما صمتُ العيش، صمتٌ تقتضيهِ النجاة وتتطلّبه. الصمت العادي الذي لا يثيرُ مخيّلةً ولا يلتفت إليه أدبٌ. صمتٌ عام، أَحالَ الحديثَ خارج هارموني الصوت الواحد إلى ضربٍ من ضروب الاستحالة.

الانتماء للمكان حبّ غير مدرك لفن مخبوء أو جمال مقتول 

وثمة خطر يسبق النطق وهو خطر أن تفكّر، لأنّك ما إن تفكّر حتّى تصير في مرمى الخطر. تصيرُ بذاتك خطيراً. لا على الآخرين، فهم محصّنون بمقولة التجانس، وإنّما الخطر يحيق بك؛ طالما لا تشعر بالانتماء إلى حيثُ تعيش، كما لم يصل بك الشعور بغياب الانتماء - لا رفضه - إلى التفكير بمغادرة المكان، أو الشروع بها. ثمّ لطالما كان لديك ذلك الشعور الإنسانيّ بأنّك مغادر وعابر، لأنّك منذ البدء، لم تلتمس عمق الإقامة. 

■■■

أخالُ أنّ الفنّ ينشأ من الاحتكاك الذي تُجريه الأشياء في الداخل، داخل الإنسان ومع العناصر داخل الأرض. وأخالُ أنّه احتكاكٌ قُسِرَ على الصمت. إلّا أنّ الكلمات، ما إن يجلس أحدنا ويكتب، حتّى تغدر صمته. الكلمات تغادر صاحبها، تشي بهِ، تهرق تحفّظه على النطق، وتحفّظه على الإشارة إلى عبوره المكانَ في زمان القتل. 

أخالُ أنّني لَم أَخلِق مكاناً أعود إليه خارج الاحتكاك الذي تُحدثه الكتابة، لم أَخلِق مسافةً تقهرني على الانتماء. ويصعب أن أقول إنّني أنتمي إلى المكان، فأنا لا أعي بَعدُ المسافة التي كان ينبغي عليَّ أن أخلقها مع المكان. ولو أنّني مثل الكثيرين، أعيش في مكان، أقصى آمال ناسهِ أن يصيروا لاجئين في أمكنة أُخرى، هذه حقيقة لا مناص منها. ولأسباب لا جدوى من تعدادها، أمكنني القول: صارت العتمة هنا جُزءاً من العين. والهبوب جزءاً من الاستكانة، لا استباقاً للعاصفة ولا بشارةً لها. 

■■■

تحت الأرض لربما، بصمتنا، نَئِدُ العاصفة، نخزّنها لزمان سيكشف عنها أحدهم، فتخرج إليه العاصفة المخبوءة للغضب والحزن. ولو أنّ هرقل قتل العاصفة آيللا في الميثولوجيا، وكانت آيللا أول من واجهته في جيش الأمازونيات، وسُمّيت بالعاصفة لأنّها عَدَت أسرع من الريح. لكن ليس أسرع من هرقل. ليس أسرع من صوت الموت، ولا أكثر مضاءً من انتماءاته. 


* روائي من سورية

المساهمون