انتفاضة 1987.. عن تفصيلٍ مظلم من الذاكرة المشرقة

27 ديسمبر 2021
من الانتفاضة في رام الله، شباط/ فبراير 1988 (Getty)
+ الخط -

مع أن انتفاضة الفلسطينيين في العام 1987 تحتلّ مكاناً حميماً في الذهن عندي، وعند كثيرين من أبناء جيلي، نظراً لما أشاعته من نظافة في الشعور الوطني، وتمترس قلّ نظيره خلف شعارات قليلة كُبرى كان أوّلها وآخرها الوطن، إلّا أنّ المرحلة وما انطوت عليه من قيامة شاملة في الروح الوطنية، شهدت تسلُّلاً لشريحة ضئيلة وسامة أعادت إنتاج نفسها في تلك الفترة ولم تتوقّف وظيفتها عند حدود تقديم المعلومة للعدوّ الصهيوني، بل تجاوزت ذلك إلى المساهمة في تسريب الأرض وتزوير ملكيّتها لصالح المستعمرين وبثّ الشائعة والتخريب وما يترتّب على ذلك من إرباك للحالة الجمعية آنذاك.

عندما سمعتُ لأوّل مرة بأمر العملاء، كنت طفلاً مارّاً رفقة والدي من سوق المدينة خلال الانتفاضة الأولى؛ رُفع منع التجوال لساعتين أو ثلاث حتّى يتمكّن الناس من الخروج لشراء مستلزمات الحياة قبل أن يُفرض المنع مرة أخرى.

اصطحبني والدي إلى السوق لشراء بعض الحاجيّات الضرورية، وأثناء عبورنا شارعاً يفصل سوق الخضروات إلى نصفين، علت أصوات غريبة من مكان بعيد. لحظات بعد ذلك، ظهرت مجموعة من الملثّمين، يحيطون بشخص بدا ذليلاً مستسلماً وهو يركض بينهم. كان المشهد أكبر من أن أفهمه من الوهلة الأولى. أجاب والدي عن سؤالي المستفسِر بخصوص المشهد الغامض بأن الرجل الذي يركض بين الملثّمين هو من عملاء الاحتلال.

تضخّمت مفردة "عملاء" في ذهني وكأنّها كلمةٌ ناشزة من الكلام؛ صارت وكأنها تميمة في كتاب سحر أسود. عملاء! امتزجت الكلمة مع مهابة المشهد: ملثّمون يحيطون بشخص في غاية الإذلال. كانت هذه المرة هي التجربة الأولى التي أشهد فيها على حالة بهذه الكثافة والاستعصاء على الفهم؛ عملاء؟ يعني يعملون مع الاحتلال، وضدّ مَن؟ هكذا سأل الطفل الذي كنتُه.

لم أفهم لماذا جاء ضابط إسرائيلي لزيارة جيراننا أمام الجميع

حكوا عن العملاء أشياء غريبة، وقصصاً مخيفة. قالوا إنهم ينفذون ما يؤمَرون به من الاحتلال تنفيذاً دقيقاً لا يتجاوز أدقّ الخطوط، وقالوا إنهم أذكياء جدّاً، ولولا ذكاؤهم ودهاؤهم العميق لما جنّدهم الاحتلال. وقالوا إنّهم أغبياء جدّاً، ولولا غباؤهم لما فعلوا كلّ ذلك. قالوا إنّهم يضاجعون أمّهاتهم وأخواتهم وكلّ ما يقعون عليه من بشر. وقالوا إنّهم مدرّبون على استخدام كلّ أنواع الأسلحة؛ إنّهم حين يُكتشف أمرُهم يختفون ولا تعلم عنهم أي شيء بعدها. وقالوا إنّ الاحتلال يتقرّب منهم بالمال حين يكون هؤلاء في حاجة إليه، ويتقرّب إليهم بالنساء حين تكون النساء نقاط ضعفهم؛ يدفع أمامهم نساءً جميلات لَعوبات كثيرات الكلام عن كلّ شيء، يتقرّبن من الرجال في غرف مغلقة ملغّمة بالكاميرات والمايكروفونات، وحين تتدافع الأنفاس ويسيل العرق وتتكاثف اللزوجة في الغرفة، تبدأ القصة التي لا تنتهي على خير...

كان الفلسطينيون يقتلون العملاء وكأنّهم يقتلون جنوداً إسرائيليين، بالحماسة النقيّة التي يشوبها التسرّع المفرط والقليل من التخطيط والمنهجية. مرّاتٍ يحتفلون بقتل من اشتُبه بأمرهم، ودون تأكّدٍ مرّات، أكثر ممّا يحتفلون بقتل الجنود. لا أحد يستطيع تخيل حجم الأذيّة التي أحدثها هؤلاء العملاء في الجسد الفلسطيني، بالدهاء الماكر مرّات وبالغباء الذي ليس له حدود مرّات أُخرى. لقد أشرعوا الخاصرة الرخوة كلّها أمام الصهاينة، حتّى صرنا مثل مَسحةٍ أسفل المجهر.

ظلّت هذه الأسئلة عصيّة على الإجابة عندي لوقت طويل حتّى وصلت عائلةٌ غريبة الأطوار ــ ولعلّها لم تكن غريبة بل تخيّلتُها كذلك ــ للسكَن في العمارة التي كنّا نسكنها في وسط المدينة. كانت العائلة مكوّنة من رجُل طويل القامة، في منتصف الثلاثينيات، وزوجة بدت لي قصيرة، وطفلين في عمرنا. لم يكن أحد من كلّ سكان العمارة يعرف مَن هُم هؤلاء ومِن أين جاؤوا، وكان من المؤكّد أنهم ليسوا من المدينة التي يكاد يعرف كلّ سكّانها بعضهم بعضاً. أغلق الساكنون الجدُد باب شقّتهم ولم يخرجوا منها بعد ذلك. أو أنهم خرجوا لكنّنا لم نعرف.

بعد أسبوعين من قدومهم ومن أسئلتنا وفضولنا، جاءت مركبة شرطة إسرائيلية إلى الحيّ، وتوقّفت أمام العمارة السكنية، هبط منها ضابط وبقي شرطيّ آخر في المركبة؛ صعد الضابط إلى العمارة، طرق باب شقّة العائلة الغامضة ودخل؛ أمضى في الداخل وقتًا ثم غادر؛ شاهد معظم سكّان العمارة والحيّ ما حدث وسط ذهول كبير.

تساءل السكّان يومها عن الحادثة الغريبة، وتسارعت الأمور بشكل مثير للريبة. أيّاماً قليلة بعد ذلك، حاصر العمارة السكنية مجموعةٌ من الملثّمين، ألقوا زجاجات حارقة على شرفات الشقّة السكنية، احترق جزءٌ كبيرٌ من الشقّة، وغادرت العائلة الغامضة بسرعةٍ تاركةً خلفها ما لم تستطع حمله معها.

لم أفهم أيّامَها كيف حدث ذلك، ولم أفهم لماذا جاء ضابط شرطة إسرائيلي لزيارتهم أمام الناس. لكنّ إحساساً تولّد عندي، بعد وقت طويل من الزمان، بأن "إسرائيل" عمدت إلى كشف هوية عميلها لأنّ أجهزة مخابراتها لم تعد بحاجة له.

انكشف أمر الكثير من العملاء الذين جنّدتهم قوّات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، فخصَّصتْ لهم مجموعة من التجمّعات السكنية لا يقطنها إلّا العملاء وعائلاتهم، التي بقي اسمُها إلى وقتنا الحالي يحيل إلى تلك اللطخة السوداء في الذاكرة الجمعية الفلسطينية. وما زال صوت واحد من هؤلاء العملاء ــ الذين أجرت معه إحدى قنوات التلفزة العالمية مقابلةً خصّصتْها للحديث عن أحوال عملاء "إسرائيل" في المدن والبلدات الفلسطينية المحتلّة ــ يتردّد في ذهني: "'إسرائيل' تركتنا مثل الكلاب هنا لكي نُقتَل في أيّة لحظة".


* كاتب من فلسطين

موقف
التحديثات الحية
المساهمون