نبدأ من حيث تنتهي رواية "امرأتان"، الصادرة عن "هاشيت أنطوان/ نوفل " في بيروت. في الورقة الأخيرة حشْدٌ من دعاوى الشكر مُوجَّهة إلى حشْدٍ من الذين، على أيِّ نحوٍ كان، دعموا الرواية. الرواية بعد قراءتها تحتاج إلى هذا الدعم، إذ إنها ليست مألوفة، فهي تجترح الغرابة، ببساطة مَن يُجريها مجَرى العاديّ والقريب، وتُواصلها، أي الغرابة، بسلاسة السَّرد المُرسَل والمُتوالي. لا بدّ أنّ رواية كهذه تحتاج إلى دعم القارئ، وإلى استئناسه، فهي، بدون ذلك، قد تشقُّ على القراءة وعلى التلقّي.
لنعُد إلى الرواية، إنها كعُنوانها لا تخرُج عن امرأتين وتظلُّ عندهما، لكنّ الامرأتين ليستا من نفس الوقت ونفس المكان. بما يعنيه ذلك من افتراق المصدر، وافتراق اللغة والثقافة والمَرجِع. كارا، المرأة الأولى، لبنانية وزمانها راهن يعود في قِدمه إلى سنة 2010، فيما فيرونيكا، المرأة الثانية، إيطالية من البندقية، وزمانُها يعود إلى أواسط القرن السادس عشر. المرأتان لا تتوافقان، لا في الزمان ولا في المكان. مع ذلك لا يشقُّ على المؤلّفة أن تجمعهما، وتبني على هذا الاجتماع رواية كاملة.
نحن هكذا أمام رواية تخترق الزمان والمكان. إنها فانتازيا، لكنها لا تتوسّل السحر ولا تتوسّل العجائب أو الخوارق. إنها ببساطة تلجأ إلى ما هو أبسط وأكثر مباشرة، إلى الحُلم الذي لا تجد المؤلّفة عَنتَاً في تحويله إلى حياة كاملة. كارا تتّصل بفيرونيكا في الحُلم، لكنّه حُلم مديد مُسترسل، بل هو واقع أكثر مادّية، وأكثر طبيعية وحقيقية، من الحياة الصاحِية. عن طريق الحُلم نعلم كلّ شيء، وعن طريق الحُلم تتتالى الوقائع وتتفاعل وتتعقّد، وتصل إلى مخارج وحلول. لا يشقّ ذلك على الكاتبة، ولا تجد عنتاً في تنكُّبه ومواصلته.
محاكمات ذكورية تُلاحق النساء بحُججٍ من الدين والسياسة
الحُلم في الرواية ليس أكثر من ذريعة، إنه مُجرّد مَمرٍّ بين زمانَين ومكانَين. ليس سوى ذلك، في غير ذلك لا يُشبه الحُلم، ولا يعني شيئاً له أن نرجع إلى أيّ درس عن الأحلام، لا إلى فرويد ولا حتى إلى ابن سيرين. الأرجح أنّ حياتَي الامرأتين تتواصلان، بل وتتطابقان من قبل، ومن خارج الزمان والمكان. كارا اللبنانية ابنة القرن الواحد والعشرين، وفيرونيكا الإيطالية ابنة القرن السادس عشر، تمتلكان، من قريب أو بعيد، ذات المظهر وذات الطبع، وذات المُجابهة والمعاناة. كلتاهما فاتنة، بل تكاد تكون فاتنة عصرها ومدينتها، لكنّهما معاً تلقيان ذات المصير. كلتاهما تُغرَم برجل يُؤثِر عليها امرأة أُخرى. وكلتاهما، رغم سحرها، هي المرأة الثانية في حياة ماركو، في حال فيرونيكا، وفي حياة عاصي، في حال كارا. كلتاهما ترفض أن تكون هذه المرأة الثانية، لكنّها، مع ذلك، تزداد شغفاً برجُلها، بالرغم من كونها تكيد له بعلاقات سطحية، مع آخَرين كثيرين. للمرأتين إذاً ذاتُ الموقع وذات الحكاية، بحيث نشعر أنّهما، من بعيد، المرأة نفسها.
من هُنا لا يكون حُلم كارا بفيرونيكا مُستغرَباً. إنهما الشخص ذاته، وكارا حين تحلُم بفيرونيكا إنما تعود إلى ذاتها. لكنّ الكاتبة لا تتوقّف كثيراً عند ذلك، بل لا تعتمده إلّا لماماً. كارا هي فيرونيكا، وهي غيرها، فبين المرأتين ما بين الزمنَين وبين البلدَين. كارا، رغم أنّها ابنة القرن الواحد والعشرين، لكنّها ابنة الشرق. هي مُسلِمة، بل وهي مُتديّنة، وهي ترى لذلك في ممارسة الجنس، في الجِماع وحده، إثماً وزِنا. الجِماع وحده، وليس ما يسبقه من مُداعبة، وليس ما يسبقه من شغف. إنه تديُّن شبه شعبيّ، لكنّه يفرّقها عن فيرونيكا المحظيّة، التي هي بلغة زمنها "بائعة هوى". تديُّنُ كارا، رغم إلحاح المؤلّفة، يبدو هو الآخر ذريعة ليس أكثر. تُمعن ريما سعد في متابعة هذا التديُّن، بل هي تصل إلى حدِّ مُواكبته بدرْسٍ قرآني من آيات كثيرة. لكنها، في ذلك، تُقنعنا فقط بمعرفتها الدينية، فيما يبقى تديُّن كارا وكلامها عن العفّة والإثم، غريباً عن روح النص، وعن سياقه. تديُّن كارا ودرسها الديني، هُما كالحُلم ذريعة وطيران فوق الواقع. إنهما حجّة واقعية لسياق غير ذلك وبعيد عنه.
في نهاية الرواية تشترك كارا، وفي الحُلم أيضاً، في حضور مُحاكمة فيرونيكا. هنا ترتدّ كارا عن حُججها الدينية، إلى نوع من محاكمة سياسية. فيرونيكا، التي تتّهمها الكنيسة بـ"العُهر"، هي ضحية سياسيِّي زمنها، ضحية ذكورية تسمُ سياسة زمنها. هنا تعدو الخطاب الديني الذي يُفسح مكانه لخطاب من نوع آخر. كارا التي تُواجه فيرونيكا، بما يُشبه، ولو من بعيد، مواجهةَ الشرق والغرب، لا تلبث أن تجد على أرض السياسة والاجتماع، ما يُعيد شراكتهما. تنجح كارا في كَسْر مُحاكمةِ فيرونيكا وإلقاء الذنب على مُجتمعها وزمنها، لكن أين صارت دعاويها الدينية. يُمكنُنا القول إننا أمام فانتازيا، لا تلبث أن تغدو لها عِبرة واقعية، لكنها ما زالت، مع ذلك، طيراناً فوق الواقع.
* شاعر وروائي من لبنان