الوساطة بين الكاتب والقارئ

01 مارس 2024
من معرض "المفقودون" لـ تيسير بركات، المقام حالياً في "المتحف الفلسطيني" ببيرزيت
+ الخط -

الفكرة التي يُقدّمها الناقد الفرنسي جيروم روجي في كتابه "النقد الأدبي" مُفاجِئة، لا لأنّها جديدة، بل لأنها منسية، على الرغم من أنّها تُمثّل الوضعية الأكثر تأثيراً وقيمةً للنقد الأدبي في جميع الثقافات، إذ قال: "إنه من دون النقد الأدبي بصفته وساطة وتحليلاً... لن تكون لدينا اليوم أدنى فكرة عن دوستويفسكي، ولا عن جويس، ولا عن بروست".

تخيّل أنّ كلّ الشهرة والقيم الأدبية والفكرية والروحية التي أصبحت جزءاً من عوالم هؤلاء الكتّاب، ومن غيرهم بالطبع، ترتبط بهذا الدور الحيوي للناقد والنقد الأدبيَّين. بدون هذا النقد يبقى الكتاب سجين الأدراج أو رفوف مكتبات بيع الكتب. وهي حقيقة يُترجمها رواج بعض الكتب، أو كسادها، في عالَم الطباعة والنشر، وعالم الإبداع، في ارتباطها بكلمة النقد. فالروايات المشهورة، مثلاً، ليست وليدة جمال النصّ المتفرّد بذاته، فقط، بل وليدة النقد الأدبي، ودوره، وشغل الناقد أو النقّاد في التعريف بالنصّ الذي اعتبروه جديراً بالقراءة من وجهة نظرهم التي سوف تدعمها وجاهة نقدية مُقنعة. وهذا ينطبق على الكتاب بقدر ما ينطبق على الكاتب.

لا يتابِع الناقد هذه الأطروحة شديدة الأهمّية في البحث عن طُرق وصول الكاتب والكتاب إلى القارئ، إذ يستتبع ذلك أيضاً، في تقديري، بحثاً عن ثقافة الناقد الأدبي ومكانته في الضمير الجمعي، كي يكون لأيّ كلمة يقولها تأثيرٌ فاعل في عالم القراءة، وتكوين الذائقة الفنّية، والفكرية للقرّاء عموماً.

ليست النصوص وليدة جمالها المتفرّد فقط، فللنّقد دورُه أيضاً

المعروف أنّ كاتباً مثل الفرنسي ستندال ظلّ مجهولاً في القرن التاسع عشر، ولم يقترب النقد من كُتبه، فلم يُقارب القرّاء في الزمن الذي شهد صدور أعماله تلك الكُتب، وأنّ أسباب شهرة الكاتب التالية لا تكمن في الكتاب وحده، فروايته "الأحمر والأسود" لم تقفز من الرفّ، ولم تخرج من الدُّرج والإهمال بذاتها، بل بفعل جهود النقّاد الذين اكتشفوا أهمّية تلك الرواية، وإذا كانت فاعليتها العملية في العصر الذي كُتبت فيه قد تلاشت، فإنّ اكتشافها أعاد لها دوراً وفاعلية في الثقافة التالية لذلك العصر.

قد لا يبدو هذا صريحاً في النقد العربي، وفي الصحافة العربية، أو في المراجعات النقدية، علماً أن كثيرين من مُستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ينفّذون مثل هذه المهمّة، مجّاناً، حين يدعون لقراءة رواية، أو مجموعة شعرية، أو كتاب نقدي أو ثقافي أو سياسي. غير أنّ الصحافة الغربية تحتفي بهذه المهمّة النقدية، أي مهمّة الوساطة بين القارئ والكتاب. 

لماذا تخبو مثل هذه المهمّة، أو تميل إلى الإهمال والتجاهل في ثقافتنا؟ بالمقارنة بما يُنتجه الغرب حصراً، فإنّ النقد العربي في مجمله تابع، وملحق بالنظريات الغربية. يبدو احتفاء الناقد العربي بالنظرية النقدية الغربية مبالغاً به، حين يقارن المرء الجهد المبذول لنقلها، أو تبنّيها، بالغياب شبه الكامل لجهد آخر يتدخّل في الوساطة بين الكاتب والقارئ. ومن المؤكّد أنّ القول بدور الوسيط لا يقلّل من قيمة النقد، بل يرفع من شأنه، ومن دوره الحاسم في انتشار الكاتب الجيّد، والكتاب الجيّد، بقدر ما يمنح الناقد نفسه مكانة ثقافية وتربوية لا تقلّ عن أهمية المنظّر.  


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون