النجاة ليست ترفاً

12 اغسطس 2024
مقطع من عمل للفنان الفلسطيني نبيل أبو غنيمة
+ الخط -
اظهر الملخص
- أخافتني أختي زينب بحديثها عن "أبو رجل مسلوخة"، مما جعلني أعيش في رعب مستمر وأصابني بالحمى، ولم أستطع التخلص من هذا الخوف.
- في رفح، الحياة أصبحت كالكأس المليئة بالصودا المركزة، ابني محمود كان يعاني من آلام شديدة بسبب لحميات في القولون، ولم يكن هناك علاج متاح.
- النزوح أصبح واقعاً لا مفر منه، الجميع غادروا بحثاً عن الأمان، المياه جفت، والاتصالات انقطعت، وقررنا المغادرة إلى المجهول.

في الأوقات الصغيرة التي كنا نلعب فيها، قبل النوم بلحظات، قالت أختي زينب فجأة: "أبو رجل مسلوخة خلف الباب". تملّكني الخوف، حاصر وجهي الصغير شكل الرجل الذي لم أره من قبل... فقط تخيّلت كمّ الدماء التي سأراها عندما يقابلني بعكاز.  هل سيمسك عكازاً؟ أدركت في ما بعد أنه لن يحتاج إليه فهو خسر جزءاً من لمعان ساقه، والعكاكيز صنعت لردم الهوة في الأرض غير المستوية عند كل خطوة لا لاستعادة لمعان الأشياء.

أصابتني الحمّى ليالي طويلة، كنتُ أرى القدم المشوهة من  بين نقاط العرق التي تسيل على عينيّ من  أعلى جبهتي. لم أكن أدرك أنّ الجبهة موضع الفكرة الأصلي، ولم تكن أمي لتعلم أنه الخوف الذي يسكن تلك الناصية، ولم أعترف حينها بأنه الخوف. لقد أصبحتُ أخاف أن أنظر خلف الأبواب نصف المفتوحة حتى لا تخرج لي الأرجل الملطخة بالدماء، أو التي فقدت لمعانها.

الحياة في رفح الآن، في لحظة ما قبل النزوح، تشبه الكأس المليئة بالصودا المركزة. إما أن تسكب الكأس كاملةً في جوفك فتحترق، أو تتركها ليسيل وتبقى على عطشك. هل الموت عطشاً أشدّ وجعاً من الاحتراق؟

هذا ما حدث. كلّ المدينة حملت موتها، ومشت نحو قبور لا تعرفها، هنا حتى الجثث تخاف يا صديقي

اشتد على ابني محمود الوجع... أصبح صراخه يُسمع في الحارة  ليل نهار... هناك عدّة لحميّات تكبر داخل القولون عنده... هذا ما قاله الطبيب قبل الطوفان... أُجِّلت العملية سبعة أشهر... انتهت فترة التحمل لديه، لم تعد هناك مسكنات تباع في المدينة تُسكت الوجع. يجب أخذ عينة وعلاج الأمر، لا مناظير في المدينة المنكوبة. الخوف من الوجع يجبرك أيضاً على التراجع في أرض المعركة، أو لعن المعركة عدة مرات من دون أن تحمل ذنبها. أسبوع بأيامه السبعة أمضيته داخل ممرات المستشفيات حيث لا مكان للجلوس هناك، ولا مكان للوقوف، فالانتظار ليس حقيقة، بل فكرة إلهاء فقط. سيموت الميتون هذه حقيقة النجاة الوحيدة، أو لعلها المكان الوحيد الفارغ.

قال طبيب الباطنية: "لا علاج له عندي" وطبيب الجراحة تهرّب. حاولتُ الاقتتال مع أحد لأجد حلاً لوجع طفلي الذي يكبر أمامي ولا حيلة لدي في السكوت أو التهوين. قلتُ للطبيب: "إذا حدث لابني شيء فسآتي رأساً إليك وأضع رصاصة في رأسك من دون أن يرفّ لي جفن". ردّ علي: "لقد قُتلت كلّ عائلتي في الحرب ولم يعد لديّ شيء لأخسره، فلتفعلي". 

بدأت المدينة فجأة تسيل خارج نفسها. المناطق الشرقية مهددة الآن وعلى جميع سكانها النزوح، هي مناطق غير آمنة هذا ما تقوله المنشورات التي تسقط من الطائرات إلى أرض المعركة من دون أن تنكسر، ثم تسمع على هاتفك كلّ عشر دقائق أسطوانات متكررة تبدأ في استيطان رأسك وبرمجتك على الخضوع للأمر. إنّها زراعة الخوف في أرض المقبرة، تخيل أن تحمل القبور شواهدها وترحل... هذا ما حدث. كلّ المدينة حملت موتها، ومشت نحو قبور لا تعرفها، هنا حتى الجثث تخاف يا صديقي. تسأل طفلتي منة الله: "هل الأمهات يخفن يا أمي؟" وأنا أسأل: "هل الأمهات يموت خوفهن أبداً؟".

إنها زراعة الخوف في أرض المقبرة، تخيل أن تحمل القبور شواهدها وترحل

الاستعداد لنزوح خامس. أصبح العدّ هنا أمراً تافهاً، الأصابع لن تكون شاهدة فقد أرهقتها كتابة أسماء الموتى وتدلت بلا مبالاة،  ولن تجيد إحصاء موتك إن جاء في نزوح تالٍ. بائع البندورة كان أول من غادر المكان، انتزع عريشته على عجل، وحمل حبات البندورة من دون أن يبقي حبة خلفه، فهي تخاف أيضاً من الدبابات، ثم لحق به بائع الفلفل الأخضر، لم تعد هناك طريقة لصنع قلاية بندورة... هل سنعيش من دون قلاية البندورة؟ ربما نستطيع... الصمود لا يحتاج إلى قلاية بندورة. 

كشك الدخان حمل خشبه ومشى نحو "المناطق الآمنة". ستفقد المنطقة مزاجها الآن، سيصبح الدخان قضية رأي عام. ربما لن يوافق أحد على المضي في المعركة من دون نيكوتين، لكننا سنتدبر الأمر ونجد طريقة جديدة لحرق خوفنا. سنصمد من دون نيكوتين على الأغلب... المياه بدأت تجف، لقد قصف مبنى البلدية في ضربة صاروخية هزت آبار المدينة الظمأى. لقد غادرت المياه هي الأخرى، بائع المياه على حماره ترك المدينة، ضرب الحمار بعصا غليظة ليسرع نحو "المناطق الآمنة". 

عليك أن تعدو الآن عشرات الأمتار لتجد حماراً آخر يصب المياه في غالونك الفارغ. الغالون الذي أملكه ثُقب جانبه فلا يمكنه حمل الماء. لا مياه في المدينة الصامدة، كما قُتل حمار آخر لم يقدر على إكمال المسافة بحمله الثقيل، النزوح ثقيل ثقيل جداً، الحمار يعلم ذلك، لكنها العصا التي تجيد الإقناع بخفة الصمود. العطش فرض عين، والموت فرض عين كما الصمود فرض عين... هكذا تقول المدينة النازحة قبل موتها بوجع ونيف.

أخيراً، تخلى صاحب مكتب الاتصالات في الحارة الصغيرة عن صموده، سيغادر هو أيضاً إلى المناطق الآمنة وسنبقى من دون اتصال بالعالم الخارجي، لن يعرف أحد عن اتجاه الصاروخ، عن فكرة الموت في رؤوسنا التي تصفر مع الطائرة الزنانة التي لا تصمت. سينسى العالم ما نحن فيه لعدة أيام إلى أن نموت، سيُخرجون صورتك ويهللون للبطل الصامد... إنها القضية الأسمى هنا. الصمود أو عدمه؛ الموت صك تأكيد لا جدال فيه أنك بطل صامد. تذكر ذلك جيداً قبل أن تفكر في المغادرة أيضاً.

بقيتُ كآخر الموتى، آسفة كآخر الصامدين في الحارة النازحة. أصبحت الريح تقلد الطائرة الزنانة في صفيرها... قالت جارتي وهي تبكي وتلملم آخر أغراضها: لا تبقي طويلاً أنت وأطفالك، وتعالي عندنا، المكان آمِن. أردت أن أعرف هل تصدق فعلاً أن هناك مكاناً آمناً في البلاد المنكوبة... أم أنها حلاوة الروح تهدهد الوجع لحظة الفقد، ألا تعلم أنّ مغادرة البيوت فقدٌ كما فقدُ الروح تماماً؟ 

رسائل التهديد بالمغادرة لا تتوقف... الصوت برتابته المقلقة تضطر إلى سماعه إلى نهاية الأسطوانة رغم أنك حفظتها غيباً، لكنك تريد أن تتبين هل هناك اكتشاف جديد سيُعلَن قد يجعلك تتخذ قرارك من دون تردد... سنبيت ليلة أخرى في الحارة الفارغة  لنعرف ماذا يخبئ الغد، كان هذا قراراً بأغلبية الأصوات الصغيرة حولي التي تدعي الصمود، تعلّمنا دائماً أنّ الخوف عيب، لكنّ المعلم دائماً كان أكثر خوفاً منا جميعاً، ويبيعنا نصوصه الجاهزة المكتوبة بخط عربي جميل بسعر مغرٍ... إنّه فن التسويق لعلمه الذي لا يعلمه. 

"يمة سامعة؟"... قالت ابنتي ميار والقلق في صوتها: "في صوت حد بصرخ". كانت الشمس أيضاً تغادر... هل تعرف الشمس  معنى النزوح؟ طرأ علي السؤال هنا! كانت جارتنا تستنجد بصوت خائف. ألم تغادر قبل ساعات لماذا عادت؟ هل توقف الاجتياح، أم أنها لم تعد تريد النزوح وجاءت لتؤنس وحشة بيتها؟ أخرجت رأسي من الشباك أو ما تبقى من الشباك لاستكشاف الأمر... "شو في يا خضرة مالك بتصرخي؟" قلت لها وأنا أراها تجري وتنظر في كل الاتجاهات في مساحة بيتها المكشوفة لي من حيث أقف. "حرامي والله حرامي... رجعت بالصدفة آخد شنطة أوراقنا نسيتها لقيته بنطّ على البيت". 

هنا حدث  دوي انفجار كبير في المنطقة فتفرق خوفها وخوفي في اتجاهات كثيرة ولم أسأل ولم تسأل... اختفت جارتي داخل منزلها وأدخلتُ رأسي المشتت لأنظر إلى أطفالي المعلقة عيونهم بفمي... على قول شيء... هل هناك قصة تقال. يبدو أن الأصوات تاهت داخل رؤوسهم كما فعلت في رأسي... ينتظرون كلمة لتتفرق أسئلتهم من دون إلحاح. "في حرامي وفي قصف قريب منا" قلتها بكل بساطة. "علينا المغادرة" قال مصعب بحزم. 

لم أستطع المجادلة حتى عادة الصمود التي تعلمتها في وقت سابق لم تعد لها حجة هي أيضاً للبقاء داخل مخيم خالٍ تماماً من كلّ شيء إلّا من لص يبحث عن رزقه ما قبل الأخير على بيت غادره أهله المنكوبون. إنّها البلاد المنكوبة لا غرابة. "بدنا خيمة لنطلع" قال محمود وهو يمسك بطنه ويحاول ربطه ليسكت الوجع. ردّ عليه مصعب: "في عند الطيارة ببيعو خيم بدي أروح مشي لأشتري خيمة إلنا لأنه حتى حمار ما ضايل بالمنطقة يوصلنا". بدأت رحلة البحث عن خيمة في المناطق التي لم يهجرها أهلها بعد... كان عليّ أن أترك أبنائي وحدهم في المكان وأخرج للبحث عن خيمة أنا ومصعب... الصعوبة في الترك والبقاء أصبحت سواسية. سمعت أن هناك من يملك خياماً تُوزَّعُ مساعداتٍ، طرقت كل الأبواب في ساعات الظهيرة الحارقة لأجد خيمة نبيت فيها ونقضي أيامنا في المكان الذي نجهل أين هو، في "المناطق الآمنة" كما يقال عنها  في رسائل التهديد والنزوح.
 
الأبواب التي طرقتها إما أن أهلها غادروا وإما أنهم ظنوا أنّ للحرب ريعاً، وهم حاصدوه، ولا نصيب لنا إلّا بأرض القمح المحروق. "ما في خيم". عدت بخيبتي... الجميع أغلق أبوابه ونوافذه وجحر الفأر الذي كان يخبئ فيه جبن الحرب، حتى إنني لم أجد الجبن - أقصد الخيام- في السوق لشرائها. كان عليّ أن أتدبر أمري من دون جبنة - أقصد خيمة. "يا له من خطأ معاد قد يزعج الفئران".

اشترينا شادراً من النايلون، وبعض ألواح الخشب، هذا ما وجدناه. أمسكت أغطية البيت وأغطية الفراش عندي والملابس التي لن آخذها معي في رحلة النزوح، وقلت لأطفالي لنتدبر أمرنا في ما هو موجود الآن. بدأنا بتكسير ما تبقى لدينا من أشياء تحتوي على أخشاب لنستعين بها في صناعة عريشة والباقي ندّخره لإشعال النار وصناعة الطعام والشاي، بديلاً للنيكوتين... النيكوتين أمر خلقه الله لتتصالح اللعنات داخل فمك. أنت بين خيارين إما أن تترك أغراضك في المكان ولن تعود لتجدها، ففي كلّ الأحوال ستذهب مقصوفة أو مسروقة، وإما أن تأخذها معك قطعاً تستطيع الاستفادة منها قدر المستطاع، وكذلك ستفقد ما ادخرته شهوراً طوالاً وربما سنوات لتستطيع شراءه، حيث ستجد نفسك تكسره من دون أن تفهم ما هو الهدف الذي سعيت له أو انتهيت عنده طول حياتك. 

سألني أحدهم من خلف بابه: "أين خيمتك الأولى؟" قلت: "لقد قدمتها لمن احتاج إليها في وقت كنت أجد مكاناً يؤويني غيرها". رد: "يا لك من ساذجة، كان عليك ادخار خيمة أو اثنتين لهذا الوقت. لا أستطيع مساعدتك الآن لا مجال لتوزيع خيام"... السذاجة نوع من أنواع التحرر من عبء محاسبة النفس على فجورها في الأخذ وفي العطاء، أما التنكر للآخر وقت الحاجة فهو العبء الذي لا يمكن حمله. 

محمود يقول: "أهم اشي يكون في حمام". محمود يقضي معظم يومه داخل الحمام بسبب حالته الصحية. إذاً خيمته دورة مياه، دورة المياه التي تحتاج إلى حرب أخرى لتوفيرها. تساءلت كثيراً: "كيف يكون الصمود وأنت تحفر في الرمال لتقضي حاجتك في التبول في منتصف الشارع".

جمعنا ما نحتاج إليه أو ما لا نحتاج إليه، لم أعد أعلم ما الذي نحتاج إليه وأنا لم أستطع توفير خيمة لتكون بيتاً يؤوينا وهي أشد احتياجاتنا. الساعة السادسة صباحاً بعد أسبوع من اجتياح المناطق الشرقية في رفح أنزلت أنا وأطفالي كلّ ما انتقيناه للنزوح به إلى المجهول، أغلقت الأبواب كلها جيداً من دون أن أترك ثغرات نصف مفتوحة خلفي. تذكرت لعبة كانت قد طرحتها علينا مدرسة العلوم في المدرسة: "إن ذهبت إلى جزيرة نائية في قارب صغير. فلديك هنا عشرة أشياء فقط يمكنك اختيارها تساعدك على الصمود لمدة يومين حتى تأتيك فرق الإنقاذ"... كلّ طالبة اختارت شيئاً ظنته مهماً للصمود، في الخيارات كان هناك عود ثقاب وزجاجة نبيذ... كانت هذه حصتي في قارب النجاة. كلّ ذلك وصوت الفكرة تصارع صوت القصف حولنا داخل جبهتي من دون أن يلهث أحدهما.

كانت أختي زينب تعلم أن لا وجود لـ"أبو رجل مسلوخة" خلف الباب، لكنّها كانت تخافه أيضاً، وأرادت أن تشاركني خوفها أو أنها لم تكن تريد أن تكون الخائفة الوحيدة في العتمة. شعرتْ بذلك عندما قاربت على الموت من الحمّى. بكت بصوت عال  لكنّها لم تكن تبكيني، بل تبكي وحدتها إذا ما متّ أنا.


* رواائية من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون