المُكالمَة

28 مايو 2022
جزء من عمل لـ أحمد مرسي، أكريليك على قماش، 1996
+ الخط -

في أحدِ الأيام الباردة في منتصف شهر شباط/ فبراير، كانتِ الاتّصالات في مبنى "مؤسَّسة المَطابع الحكوميَّة" مقطوعةً بسببِ عُطلٍ في الكابلِ الرئيسيّ في الشارع، وقد أعلمَتْهُم "مؤسّسة الاتصالات" أنَّ الكابل مقطوعٌ بسبب أعمالِ الصّيانة في الشارع العام، وذلكَ لأنّ "مؤسّسةَ الحفرِ والترميم" تقومُ بإجراء حفريّات ضرُورية، وقد قطعوا كابل المؤسّسة عن طريق الخطأ.

يعملُ السيد وهيب موظّفاً في "مؤسّسة المطابع الحكومية"، وبصفته مسؤولاً عن إعداد طلبات التوظيف، فقد كان حريصاً ودقيقاً للغاية، ويجوز القول إنّه كان الموظّف الأكثرَ دقّةً في المبنى على الإطلاق، فلطالما وضَعَ الموافقات التي تحتاج إلى التوقيع النِّهائي بنفس اليوم الذي يطلُبُ به المديرُ أحد الموظّفينَ الجُدُد، وذلك بناءً على توصياتٍ عديدةٍ من دوائرَ حكوميّة مُختلفة. المدير بدورِهِ كان على درايةٍ مباشرةٍ بأهمّية مقدِّمي الطلباتِ حسبَ الترتيب، وذلك بدقّةٍ شديدةٍ وشرطِ عدمِ نسيانِ أيّ طلبٍ والموافقةِ عليه بالموعدِ المُحدَّد.

إحدى الرسائل التي قرأها هذا الصباح هي رسالة قادمة بالبريد المُستعجَل من "مؤسّسة الاتصالات":

"أعزائي في مؤسّسة المطابع الحكوميّة تحية طيبة وبَعد، إن الكابل المقطوعَ الذي يربِطُ مؤسّستكم لا يزال قيدَ الصّيانة، وعُمّالُ مؤسّستنا وفنِّيوها يحاولونَ إصلاحَ العُطلِ على وجهِ السُّرعة، سنتّصلُ بكم لاختبارِ جَودةِ الشّبكة في حالِ تمّ إصلاحُ العُطل".

وضعَ السيّد وهيب المغلّفَ جانباً ريثما يأتي السيّد نائبُ المدير، ويمرُّ من ناحيةِ البابِ ذاهباً إلى مكتبه المُجاوِر تماماً لمكتب وهيب.

انتهى السيد وهيب من إعداد الدراسة لآخر طلب من طلبات التوظيف، وجهّزه لكي يوقّعه المدير قبل انقضاء اليوم الأخير، وأرادَ توقيعَ الطّلبِ من السّيدِ المُدير عند الساعة الثانية عشرة تماماً كما جرت العادة، لكنَّه ما إن رأى نائبَ المدير حتّى حَمَلَ إليه الظّرفَ ليُعلِمَهُ بضرورةِ اتّخاذِ الاحتياطاتِ الضّرورية بسببِ انقطاعِ الكابل، فأثنى عليه نائبُ المديرِ واصفاً إياهُ بالموظّفِ الذي لا تفوتُهُ شاردةٌ ولا واردة، مقهقهاً للفْظهِ العبارةَ التي لا يستخدمُها كثيراً. 

تقاريرنا تؤكّد إخلاصك ونيلك التصنيف التاسع بدرجة تقدير.

كانت الساعة قد تجاوزتِ الثانية عشرة بثلاث دقائق بسبب نكتة نائب المدير، وعندما أدرك السيد وهيب أنّ المدير قد غادر مكتبه، ظنَّ أنّه في أحد الأقسام الأخرى، وأنّه قد يعود مجدّداً ليسألَه إذا ما انتهى تماماً من الطلبات لاستلامها، كما يحدث في بعض الأحيان فقط، بحسبِ مزاجِ المُدير اليوميّ.

عند الساعةِ الثانية عشرة والربع، حينما كان السيد وهيب ينظرُ من مكتبِه، ويترقّب الباب لكي يرى المدير الذي سيمرّ من الممرّ الحصريّ المواجه لغرفته، والذي يؤدّي الى غرفة المدير في الطابق العُلوي، لكي يسأله توقيعَ الطلبِ الأخير، الذي كان من المفترض أن يتمّ قبل ربع ساعة. 

أتى ثلاثةُ رجالٍ حليقي الرؤوس من المنتصف، مع بعض الشعر حول الأطراف، يرتدون بدلات رمليّةٍ داكنةٍ، تتدلّى من جيوبِها العُليا مناديلُ سوداء، ثم دخلوا مكتبه؛ وبعد أن انتشرَ خبرُ قدومِهم، ترك جميعُ الموظفين أشغالهم لمراقبة زميلهم والضيوف الذين دخلوا غرفته. وعندما خرج الرجال الثلاثة برفقة الموظف الذي تعاملوا معه وكأنّه صديقهم، ظلّ الجميعُ يراقب المشهد بتمعّن، وكان البعض يهمسُ بعباراتٍ غير مفهومة ومبهمة، وبعضهم يهزّ الرأسَ مؤنِّباً ومُفكّراً.

في الطابق الثامن للبرج المجاوِر لـ"مؤسّسة المطابع الحكومية"، جلس السيد وهيب إلى طاولةٍ معدنيّةٍ مستطيلةٍ تتوسَّطُ غرفةً باردةً مليئةً بالأضابير المُنضّدة والمُكدّسة، وعلى بعد عشرين متراً في الغرفة الشاسعة نفسها، جلسَ الرّجالُ الثلاثة بمحاذاة بعضهم يرتّبون أوراقَهُم بانتظامٍ، وبحركات متزامنة تجعل الناظر إليهم يخالُهُم رجلاً واحداً. 

كانت الهواتف المرصوفة على مناضدهم ترنُّ دون انقطاع، وكانوا يرفعون سماعات الهواتف بالطريقة ذاتها وكأنّهم نسخة واحدة، نفس الرؤوس والبدلات والحركات، يسقطُ منهم قلمُ الحبر الأزرق الناشف عن طريق الخطأ بنفس الوقت، فينحنون لالتقاطه، ثم يضعونَهُ برفقٍ على دفترٍ مليءٍ بالجداول، ثم يصلِحُونَ وضعَ نظّاراتهم، ويعقِدُون أصابِعَهُم بطريقةٍ بُرجيّةٍ ويسعُلونَ مرَّتين.

راح السيد وهيب يراقبُهم ويفكّر في سرّ وجودِه في برج السُّلطات المكتبيّة العُليا، وأنّه كان دقيقاً للغاية، وأنّه لم يخطئ أثناء عمله يوماً.

وقفَ الموظّفون الثلاثة من بعيد، وجرّوا كراسيهم، ثم جلسوا قُبالة السيد وهيب، ووضعوا أيديهم على رُكَبِهِم باللحظة نفسها، ثم قالوا بتباطؤ:

- "سيد وهيب أنتَ لستَ متَّهَماً، ولستَ قيدَ التَّحقيق. لدينا تقارير تؤكّدُ إخلاصَكَ في عمَلِكَ ونيلَكَ التصنيفَ التاسِعَ بدرجةِ تقدير، لكنْ للأسف! إنّ تأخُّرَ تسليمِ أحدِ الطلباتِ اليومَ، جعلَ مسؤولينا يشعرونُ بالاستغراب لا أكثر ولا أقلّ، ولذلك يريدون التأكُّدَ من حَلِّ المسألةِ بسرعة، وشكرِكَ على اجتهادِك. إنَّ مثلَ هذه المواضيع تحدُثُ دائماً، ولا يمكِنُنا أن نعتبرَها خطأً عظيماً".

- "أعزائي السادّة الموقّرون شكراً جزيلاً لكم، لقد أردتُ إنهاءَ توقيعِ الطّلب عند الثانية عشرة، لكنّ المدير، كما علمت، كان قد غادرَ المبنى في الثانية عشرة بالضبط، وهو الوقت الذي ينبغي أن أعطيه الطلب باللحظة نفسها، ربّما كان الفرقُ ثوانيَ لا أكثر، قبل أن أفقدَ أثَرَ المدير الذي نَزَلَ في مصعدِ المبنى ربّما".

- "عزيزي! إن التأخُّر لدقائقَ قليلةٍ قد يُعرقِلُ بعضَ الطلبات، والذي يسبّبُ بدورِه عرقلةَ النظام العام، لكنّه في الوقتِ عينِهِ ليس خطأ جسيما كارثياً يستدعي التوقّف عنده والمعاقبة عليه، أو اعتباره نقطةً سوداءَ في سِجلِّكَ النّظيف، إنه شيءٌ بسيطٌ جداً، وخصوصاً حينما يصدُرُ عن موظّفٍ بالغِ التنظيم والدقّة مِثلك. ولهذا السبب نحن هنا فقط بانتظار مكالمةٍ من "مؤسسةِ الاتصالات"، تنبئُنا بعودةِ الخطوط، ومن ثم مكالمة أخرى من المسؤولِ عن قسم الطلبات المتأخّرة لاستكمالِ النقص، والبحثِ في بعض الأمور، ثم إقفال هذه المسألة نهائيّاً، وتوجيه كتاب شكرٍ لكَ حسب الأنظمة والقوانين المعمول بها، والمنوطة بمسؤوليّات مكتبنا".

خطّةٌ لا تحتاج إلى برقيّاتٍ أو إشعاراتٍ حكومية لكنّها قد تكلّفُه مستقبَلَهُ كلّه. 

كانت جميعُ الهواتف في الغرفة ترنّ دونَ انقطاع، باستثناءِ الهاتفِ القديمِ الموضوع على طاولة السيد وهيب، والذي يتوجّبُ تلقِّي المكالمة عن طريقه حصراً. تمَلمَلَ الموظّف في كرسيّه ناظراً إلى الرجال الثلاثة، وإلى الطاولة المغبرّة وبعض الأدوات المكتبية والهاتف، ثم تعقّبَ بنظرِهِ الكابل المُتّصِل بالهاتف، ليرى أنّه مقطوعٌ ويتدلّى شريطُهُ إلى الأرض بصورة واضحة.

في حين كان الثلاثة يتحرّكون سويّة، ويضعون أيديهم خلف ظهورهم وهم يقولون: "حين تأتي المكالمة، نستطيعُ القولَ إنّ خمسةَ دقائقَ كافيةٌ لحلِّ هذهِ المُشكلة، ولكن قبلَ ذلك لن تتمكّنَ من المُغادرة".

توجَّهَ السيّدُ وهيب إليهم بالسؤال، كمَن يريد أن يشرح شيئاً بديهياً مُسلّماً به وبطريقةٍ ودِّية:

- "أستميحكم عذراً أيها السادة، وأشكركُم على الالتزام بقوانين العمل، إلا أنّني أريد فقط أن أنوِّهَ أنّني اكتشفتُ للتوّ عن طريق المصادفة، أنّ هذا الهاتف الذي نترقّبُه بكابل ذي نهاية مقطوعة، ولذلك عليّ أن أخبرَكُم بهذا الأمر حسبَ القانون".

وقَفَ الرّجالُ الثلاثة باستغراب، اصطفُّوا خلفَ بعضهم، ثم انحنوا وهم ينظرون إلى الكابل يحرّكون رقابهم في الوقت نفسه، ثم وجدوا النهاية المقطوعة وهتفوا بانفعال واحد: "آه أيتها السماء".

- "ولذلك أرجوكم أيّها السادة الموقّرون أن تلتزموا بالقوانين، وأن تُصلِحوا العُطلَ بالسرعة القصوى". قالَ المُوظّفُ المحتَجَزُ بنبرةٍ جدّيّة ومتوسِّلة.

قال الرجال الثلاثة: "إنّكَ مُحِقٌّ تماماً، وبما أنّ العُطل الأساسيّ هو عطلٌ في التمديدات الأساسيّة، والتي يقومُ بحلِّها موظّفو مؤسّسة الحفر والترميم، والعُطلُ الثاني هو الهاتف ذو النهايةِ المقطوعة، وبما أنّ اللوائحَ التنفيذيّة تؤكّد دائماً على التسلسل الهرمي في حلّ المشاكل، وذلك حسب الشروطِ والأنظمةِ السارية في مؤسّساتنا، فإننا سنتوجَّه برسالةٍ عاجلةٍ لمؤسّسةِ إصلاحِ الهواتف، لكن شريطةَ تلقّي الاتصال الذي يُعلِمُنا بعودةِ شبكةِ الاتصالات المقطوعة في الشارع، والذي يجب أن يتمَّ عن طريقِ الهاتفِ نفسِه الآن".

كان كلام الرجال الثلاثة عن اللوائح والأنظمة دقيقاً للغاية، ولا تمكن مناقشةُ الأمر معهم حتّى، ولا يمكن حتّى تعديلها أو الاجتزاء منها.

كان السيد وهيب ينظرُ إلى الهاتف ذي النهاية المقطوعة، والتي لا يمكن لعاقلٍ أن ينتظرَ تلقّي أي اتصالٍ عن طريقه، حتى لو تمَّ إصلاحُ العُطلِ الأصليِّ في الشارع، وبنفس الوقت، لا يمكن له مناقشةُ اللوائحِ التنفيذيّة، لأنّه بذلك يخالِفُ القانون، ويُعرّضُ نفسَهَ لعقوبةٍ أقسى، ناهيكَ عن إلغاءِ ميزاتِه الإداريّة كافّة.

عاد الثلاثة إلى كراسيهم ووضعوا ساقاً على ساق، وراحوا ينظرون إلى الهاتفِ بجدّيةٍ والتزامٍ، أما السيد وهيب فقد بدأ يتصبَّبُ عَرَقاً، وراحَ يُحدّقُ في الهاتف الذي بدا كإعدام شخص يتدلّى من رقبته حبلٌ غير معلّقٍ بسقفٍ، وبأنشوطة مفتوحة. 

نظرَ إلى بابِ الغرفة المفتوح مفكّراً بخطّتِهِ الخطيرة، خطّةٌ لا تحتاج إلى برقيّاتٍ أو إشعاراتٍ حكومية أو لجانٍ تنفيذيّة، لكنّها قد تكلّفُه مستقبَلَهُ كلّه. 

ثم قرّرَ التنفيذ في اللحظة التي ينشغلون بها عنه، طالما أنّ الرجال الثلاثة يتصرّفونَ كنسخةٍ واحدةٍ، وستكون بالتالي حركتُهُم بطيئةً ومحدودةً، وحين وضعَ يَدَهُ على الطاولة محاولاً القيام من كرسيّهِ، رنَّ الهاتفُ نفسه مرّةً واحدةً فقط لا غير.


* كاتب من سورية

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون