المكّي مغارة.. استعادة لحظة تأسيسية في التشكيل المغربي

18 أكتوبر 2022
من المعرض
+ الخط -

شهِد المغرب في الخمسينيات خروج اللوحة من الصالونات الأوروبية المنتشرة في مدنه، حيث بدأ الاهتمام برسّامين تقليديّين قدّموا فنّاً فطرياً على الأغلب، في فترة عرفت إقامة معارض أُولى لجيل من الفنّانين الذين اجتهدوا لتكريس الحداثة بخصوصيةٍ مغربية.

مشهدٌ مثّل تطوّراً نوعياً استند إلى تكوين أكاديمي تلقّاه أولئك التشكيليون في "مدرسة الفنون الجميلة" بالدار البيضاء، وقبلها "مدرسة تطوان" التي خرّجت بعضهم؛ من أمثال محمد شبعة وأحمد بن يسف ومحمد المليحي، وكذلك المكّي مغارة (1933 - 2008) الذي يُستعاد هذه الأيام في معرض يحمل عنوان "رؤى".

افتُتح المعرض مساء السابع من الشهر الجاري في "مركز الفن الحديث" بتطوان ويتواصل حتى الحادي عشر من الشهر المقبل، وهو يعكس مرحلة مهمّة من التشكيل المغربي تصدّرها تجريب أنماط تعبيرية ترتكز على العلامة والرمز والحركة المستمدّة من التراث.

أعمال تكشف عن تنوُّع كبير في التقنية وبحث مستمرّ عن مصادر جديدة

تنتمي بعض اللوحات المعروضة إلى مرحلة البدايات، مع استكمال مغارة دراساته العليا في مدريد وباريس وبروكسل ثم عودته إلى المغرب للتدريس، فبرز اهتمامه بالتراث المعماري والطبيعة، خاصّة في شمال البلاد، حيث وُلد وعاش معظم حياته، وحيث بدا مخلصاً للواقع الذي سيشكّل لاحقاً المرجعية الأولى لتجربته.

شكّلت زاوية النظر إلى المشهد نقطةً مهمّة في التكوين لدى الفنّان الراحل، تُعزّزها براعة في التلوين وتوزيع الظلّ والنور والكتلة والفراغ، وفق التزام واضح بالمعايير الأكاديمية، لينتقل بعدها إلى الوجه البشري بوصفه مرجعية ثانية بعد الطبيعة، دون التخلّي عن تلك المعايير. ورافقت ذلك دراساتٌ موازية في رسم الأجساد وتشريحه.

الصورة
من المعرض
من المعرض

استبدل مغارة في مرحلة تالية الشكل بموتيفات تحيل إلى الذاكرة الجمعية، مثل العديد من مجايليه، وقدّم رسومات بالأكريليك والزيت والألوان المائية والمواد المختلطة، هيمنت على عناصرها أنواعٌ من الزخرفة على المنسوجات والأزياء والحليّ الشعبية، في نزوع واضح نحو التجريد، لتتّخذ اللوحة في ما بعد فضاءً مختلفاً، حيث "كلّ ما في الكون صالحٌ لأن يُستغَلّ تشكيلياً"، وفق قوله.

يحيل عنوان المعرض إلى تلك الرؤى المتعدّدة التي حكمت ممارسةً فنّية امتدّت لأكثر من خمسين عاماً، ولم يتوقّف التجريب فيها عند حدود الشكل والتكوين، كما تَبرز مثلاً في رسوماته وأعماله بالرصاص أو الحبر، والتي تصوّر حشوداً ومجاميعَ بشرية في مشاهد عادية من الحياة اليومية، أو مناخات تمزج بين الفانتازيا والواقع، إلى جانب تجريب آخر يتّصل بمزج التقنيات في العمل الواحد أو في خلط الأصباغ في نسَب ومقاييس اختبرها بنفسه، وتحديداً في خلط الأكواريل والزيت وغيرها من المواد، لتنتج حساسية لونية جديدة ضمن تماوجات أو لطخات متحرّكة على سطح اللوحة.

إزاء هذا التنوّع الكبير في التقنية والأسلوب، امتلك مغارة تنظيراً خاصّاً حول الحضور الطاغي للمكان في لوحته باعتباره تعبيراً هوياتياً عن الذات في مقابل الآخر، ولم يفلت من هذا التأثير - من وجهة نظره - معظم الفنّانين العرب في مرحلة ما بعد الاستقلال، وكذلك في الحديث عن التحوّلات التي طرأت على تجربته.

رؤى متجانسة أحياناً ومتنافرة أحياناً أُخرى، لكنّ مكانة الفنان تستند إلى لوحته التشخيصية في لحظة تأسيس حركة تشكيلية مغربية تقطع مع تيّار الفطرية الذي ساد طوال النصف الأوّل من القرن العشرين.

الأرشيف
التحديثات الحية
المساهمون