المكوّعون... مثقّفو الديكتاتوريات

05 يناير 2025
مواطنون يزيلون تمثالاً لحافظ الأسد في دمشق، 9 كانون الأوّل/ ديسمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد سقوط نظام الأسد، بدأ العديد من أنصار النظام السابق، بما في ذلك المثقفين والفنانين، في التبرؤ منه والسعي للتسوية مع النظام الجديد، مما يعكس تحولاً في الولاء والانتماء.
- تعتمد الأنظمة الديكتاتورية على المثقفين والفنانين لتجميل صورتها وترويج دعاويها، حيث يصبحون جزءاً من آلة الدعاية الرسمية.
- مفهوم "التكويع" يعبر عن تغيير الولاء لدى المثقفين والفنانين مع تغير النظام، مما يعكس انحدار الثقافة إلى أداة للبيع والترويج.

إلى أحمد بيضون

بعد سقوط نظام الأسد ودعوة النظام الجديد ما سمّاه فلول النظام البائد إلى التسوية، هال الجميع رؤية أنصار السُّلطة الأسدية وأتباعها يتساقطون بالعشرات ويُعلنون توبتهم، ويتبرّؤون بملء أفواههم من الحُكم الذي التفّوا حوله من قبل واستفادوا من نفوذه، وخدموه بكامل طاقاتهم، واستعدوه على معارضيه ومعارضيهم. لا شكّ أنّ هؤلاء منبثّون في شتّى الزمر وشتّى الفئات. هُم بالطبع تجّار ومستثمرون وموظّفون كبار ومهرّبون، إنّهم حاشية النظام وبيئته.

لسنا هنا لنتعرّض لهذه الطبقة كلّها، ما يهمّنا هو استتباع مثقّفين وأدباء وشعراء وفنّانين، استتباع المثقّفين الذين تتوسّل بهم السُّلطات الموازية للسُّلطة الأسدية، لتزيين حُكمها، وامتداحه والدعاء له. يهمّنا هذا المحيط الثقافي الفنّي الذي تتّخذه هذه السُّلطات لنفسها، وتتوسّله لتجميل صورتها وتصنيمها، ورفعها إلى مستوى الدين والعقيدة.

الأنظمة التي تستدعي ذلك وتبني منه وعليه، هي أنظمة الديكتاتوريات العسكرية. أنظمة كهذه قفزت إلى الحُكم بدعوى التحرير والتحديث والعدل الاشتراكي، أي إنّها تُقدّم نفسها على أنّها أكثر من حكومة، إنّها عقيدة وبرنامج وفكر وثورة واقتصاد وإرادة شعبية، أي إنّها، بكلمة، تُشبه أن تكون ديناً سياسياً وقدراً اجتماعياً وتاريخاً. أنظمة كهذه ذات دعاوى فكرية ونظرية تحتاج إلى إطارات فكرية وفنّية، تحتاج إلى بروباغندا ومظاهر ثقافية وصياغات نظرية تحتاج دعاويها الثورية إلى هذا الرديف الفكري، من حملات وأنشطة ومناسبات تخدم صورتها، وتخلق حولها مناخاً مناصراً، وسجالات ودعوات وتبريرات، ما يجعل منها فلسفة وديناً جماهيرياً. حاجة هذه الأنظمة إلى الفنّانين والمثقّفين صادرة عن هذه الحاجة. الحُكم هنا هو عقيدة الشعب، ولا بدّ أن تكون له احتفالات ومناسبات وأعياد. هكذا يتمّ ضخّ هذه الشعائر وتلك الأغراض، ولا بدّ في سبيل ذلك من جيش من الدعاة والمنظّمين، جيش من الفنّانين والكتّاب والمفكّرين.

يتعلّم المثقّف كيف يبيع الكلمة واللحن واللون فيصبح هو نفسه مبيعاً

أنظمة الديكتاتوريات العسكرية هي أيضاً أنظمة رأسماليات الدولة، وهي أيضاً عبادة الدولة برموزها الأعلى، الرئيس أوّلاً. الدولة تسيطر على كلّ شيء على الاقتصاد والاجتماع والثقافة، ولا بدّ لها من إطار حزبي وإطار عقائدي. هنا يأتي دور المثقّفين والفنّانين، لكنّهم إذ ذاك ليسوا إلّا موظّفين أو أتباعاً. هكذا تنحطّ الثقافة إلى أن تصبح محض دعاوى. يتعلّم المثقّف كيف يُصبح داعية، وكيف يبيع الكلمة واللحن واللون لتصير هذه مواد للبيع، كما يصبح المثقّف نفسه مبيعاً. هكذا نفهم ما سمّاه أحمد بيضون "التكويع" أي الانعطاف إلى موقع جديد، بمجرّد أن يتغيّر الحُكم. التكويع من كوع؛ وهو الطريق الذي ينعطف إليه المرء ما إن ينقطع طريقه الأوّل.

التكويع هو إذاً تبديل الولاء، ما إن ينتهي الوليّ الأول ويبرز وليّ ثان. التكويع هكذا هو سُنّة عدد من فنّاني سورية ومثقّفيها الذين، ما إن سقط الحُكم الأسدي، حتى كوّعوا، أي بدّلوا ولاءهم وانتقلوا إلى ولاء آخر، بأيّ حجّة كانت. قد نفكّر هكذا في مسرحيٍّ تهافَتَ في خدمة الأسد، وتخلّى عنه صبيحة رحيله، بشاعر أو أكثر، وبآخرين من كلّ صنف. المثقّف الداعية هو في الخدمة، إنّها وظيفته وهو يُمارسها أيّاً كان الحاكم، يُمسي على بشّار الأسد ويصبح على أحمد الشرع، فينقل هكذا ولاءه من كتف إلى كتف.

لن يكون وحده في ذلك، هناك عشرات سواه، بل مئات الذين يستحقّون، بحسب أحمد بيضون أن يكونوا عائلة كاملة، عائلة المكوّعين، بأسمائهم التي يبقى منها كنية الكوع أو اسمه بأيّ وجه كان. أحمد بيضون يمازح حين يضيف إلى اسم كلّ منهم لفظة الكوع، أو ما يشتقّ منها. إنه ضحكٌ لكنّه يردّنا إلى أن نفكّر في حال مثقّفينا وفنّانينا، الذين ينحدرون بالثقافة إلى أن تكون، ليس أكثر من بيع صوت. ربّما كان هذا مآل رأسماليات الدولة ومثقّفيها، إذ هنا تملك السلطة المجتمع والدولة والحياة العامّة والخاصّة والكلام والفكرة.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون