"المكتبة المتنقّلة" لكريستوفر مورلي: كتبٌ في الدروب الوعرة

17 سبتمبر 2024
دمج الكاتب بين الاستقرار والارتحال
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **دمج الاستقرار والارتحال**: كريستوفر مورلي يجمع بين الاستقرار والارتحال في روايته "المكتبة المتنقلة"، حيث يتنقل ميفلين مع كلبه في كابينة خشبية محملة بالكتب لتعزيز ثقافة المزارعين.
- **تغيير حياة الشخصيات**: ميفلين يبيع مكتبته المتنقلة لهيلين، مما يخلق توتراً ومغامرات بين الشخصيات الرئيسية الثلاثة: هيلين، أندرو، وميفلين.
- **تأثير الأدب على المجتمع**: الرواية تسلط الضوء على تأثير الأدب في تغيير حياة الناس، مستعرضة مغامرات هيلين وميفلين في نشر ثقافة القراءة.

ضمن الجماليات اللامتناهية للأدب، ثمّة جمالياتٌ من نوعٍ خاصّ، قلَّما يختلف بشأنها القرّاء، مثل الكتابة عن الكتب وكلّ ما يتعلَّق بها، سواء كان الكاتب بائعاً في مكتبة عند أطراف العالم يدوّن يومياته، أو كاتبة أميركية تستغلّ الفرق في قيمة العملة بعد الحرب العالمية لتحصل على الكتب عبر المحيط، من خلال مراسلة مكتبة كتب مستعملة في لندن... أو، كمثال جمالي ثان، النوع القديم المسمّى أدب الرحلة، الذي يُتيح للقارئ الارتحال بالمعنى الأوسع لهذه الكلمة، فيما هو جالس على كرسيّه لا يبارحه. كيف ستكون الحال إذاً مع رواية تجمع بين هذين النوعين؟

دمج الكاتب الأميركي كريستوفر مورلي (1890 - 1957) بين الاستقرار والارتحال من خلال "المكتبة المتنقّلة"، وهي الصرح الغريب والمشروع الحالم الذي أعطى اسمه للرواية الصادرة عام 1917، وصدرت حديثاً عن "دار الكرمة" بترجمة إيناس التركي.

بعد سبع سنوات من التنقّل والعيش مع كلبه داخل كابينة خشبية يجرّها حصان قوي، وتضمّ داخل جدرانها الخارجية المصمّمة على شكل أرفف مكتبة كلّ ما يحتاجه المرء للمبيت والغذاء؛ يُقرّر ميفلين أن يبيع تلك "القافلة الثقافية" ليتفرّغ لتأليف كتاب عن "الأدب بين المزارعين"، يُناقض به التوجّه النخبوي والأرستقراطي للأدب في عصره، هو الذي خبِر التعامل مع هؤلاء المزارعين الذين أحبّوه وصاروا ينتظرون مروره مع عائلاتهم، بعد أن حمل الكتب إلى عزلتهم ولياليهم الطويلة عبر الدروب الوعرة لعدّة ولايات أميركية، كمن يقوم بمهمّة إنسانية، لا بل وطنية أيضاً، إذ "هذا هو ما يحتاج إليه هذا الوطن، مزيدٌ من الكتب!".

عاكَس التوجّه النخبوي والمتعالي للأدب في عصره

في بحثه عن شارٍ يُقدّر بضاعته الثمينة حقّ قدرها، يقصد ميفلين مزرعة سابين، حيث يعيش كاتبٌ هو أندرو ماكجيل مع شقيقته هيلين، عُرف عنه حبّه الكبير للكتب، خاصّة بعد الانتشار الواسع الذي حظيت به مؤلّفاته.

اعتباراً من هذه الزيارة التي نسفت روتين حياة مربّية الأطفال السابقة، وربّة البيت الأبدية الغارقة في واجباتها التي لا تنتهي، وأجبرت الكاتب الذي هجر مهامه مزارعاً على العودة إليها، يُسيِّر التوتر العلاقة بين شخصيّات الرواية الرئيسية الثلاث ويتحكّم بالسرد، من دون أن يخلو ذلك من الطرافة والنكاية والمغامرات المحفوفة بالمخاطر.

إذ إنّ من يشتري المكتبة هي هيلين لا أندرو، الذي لم يعلم بالأمر إلّا بعد اختفاء أخته، مقرّرةً بذلك خوض مغامرة قادها إليها ملل خمسة عشر عاماً خبزت خلالها نحو ستة آلاف رغيف، كما تُبرّر فعلتها لنفسها ولمن يمكن أن يسألها، بحسّها الحسابي التوفيري الدقيق، بعد أن دفعت مقابلها ما ادّخرته في حوالي ثلاث سنوات وأربعة أشهر، هي التي كانت متأكّدة من أنّ أخاها كان سيفعل الأمر ذاته، مُلقياً على كاهلها أعباء العمل في المزرعة بأنانية الفنّان التي تُسيطر عليه. وما دفعها في طريق التقدّم في تجارتها، بعد ذلك، الغيرة من السمعة الحسنة والتقدير العالي اللذين نالهما ميفلين، فتهرب منهما محاوِلةً أن تحوز مكانة مماثلة لنفسها، إذ وجدت منذ البداية أنّ ذلك الرجل الضئيل "كان تبشيرياً متجوّلاً من نوعٍ ما، بطريقته الخاصّة".

أمّا أندرو، فقد اعتبر البائع المتجوّل تشيتشكوف آخر، وتعامل معه باعتباره نصّاباً احتال على أخته، كما فعل بطلُ رواية غوغول الأشهر، "الأنفس الميتة"، بأصحاب المزارع والضيع التي مرّ بها. وقد وصل الأمر بينهما إلى حدّ العراك البدني، الذي برع فيه ميفلين، نظراً لاضطراره للتعامل مع اللصوص وقطّاع الطرق خلال سنوات تجواله، قبل أن يُقدّم أندرو شكوى لدى الشرطة بحقّ ميفلين ويزجّ به في السجن.

وفي مقابل ما يُبعد هذه الشخصيّات الثلاث عن بعضها، هناك ما يجمعها، وهو الكتابة. تنهال العروض من الناشرين على أندرو، الذي يقوم برحلات عديدة من أجل مشروعه الأدبي الجديد. كما أنّ روجر ميفلين بدأ العمل على كتابه العتيد وهو في السجن، بعد أن دوّن من أجله الكثير من المشاهدات والأفكار والملاحظات على العديد من الكرّاسات. أمّا ما نقرأه في هذه الرواية فهو ما تسرده لنا هيلين خلال رحلتها القصيرة قائدةً للمكتبة المتنقّلة، مُقرّبة لنا الأفكار والمعاني من خلال تشبيهات واستعارات مطبخية، تمنح سردها أصالة ودفئاً.

لم يُفارق ميفلين هيلين بعد أن باعها المكتبة، إذ إنّ إكمالها لمشروعه كان مقدّمةً لإكمالهما حياتيهما معاً. في البداية رافقها لتعليمها أساسيات العمل؛ كيفية التعامل مع الزبائن الريفيّين، وكيفية التزوّد بالكتب من مكتبات المدن عند المرور بها. لكنّه لم يبتعد عنها حتى عندما بدا أنّه فعل ذلك، إذ خاف أن يكون قد استغلّ حماسها وورّطها في مغامرة لن تقدر على الصمود فيها، لذلك استمرّ في حمايتها وتأمين طريقها الذي اختبر مخاطره، مثيراً إعجابها بشجاعته وجرأته. كما أنّ الصعوبة الأكبر لعملها، كما بيّن لها روجر، هي أنّ من تطوي المسافات من أجلهم يجحدون جهدها، ويفضّلون شراء عُدّة جديدة للعمل في أراضيهم، أو حيوان صغير، على شراء كتاب، وهي صعوبة تعود إلى عدم امتلاكهم خلفية ثقافية وإلى تواضع مستوى تعليمهم، ما يجعله يشكو لها قائلاً: "ها أنا أمضي محمَّلاً بالخلاص الأبدي ـ أجل يا سيّدتي، الخلاص لعقولهم الصغيرة غير مكتملة النموّ. ومن الصعب حملهم على رؤية ذلك".

نعرف حادثةً واقعية تحملنا على الاعتقاد بأنّه كان لرواية كريستوفر مورلي هذه تأثير كبير بعد نشرها، وهذا ليس أمراً غريباً عن الأدب وعن تأثيره في البلدان التي تقدّره؛ فقد فوجئ سكَّان عدد من البلدات الريفية الأميركية شبه المعزولة، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، بوصول مجموعة من الفارسات اللواتي حملن كتباً على متن أفراسهن، أرسلتهنّ الحكومة الأميركية لنشر ثقافة القراءة بين غير القرّاء. كرّرت هؤلاء الفارسات زياراتهنّ إلى القرّاء الجدد المنتظرين قدومهنّ حتى منتصف الحرب العالمية الثانية، حيث أوقف اشتداد الحرب، والظروف التي رافقت ذلك، هذه الفكرة.


* كاتب من سورية

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون