المطلق الترجمي

05 نوفمبر 2022
"اليوم أُريد أن أكون شجرة"، جدارية لعبد القادري، 2020
+ الخط -

منذ شروع الإنسانِ في التفكير، شغَلَه سؤالُ المُطْلَق ضِمن انهمامه بأسئلة الوجود والمصير، وضمن سعيه إلى الانتصار على الفناءِ، الذي يتحيّفُ وجودَه، بصفته الممكنَ الوحيد والأكيد من بين ممكناته الكثيرة، بعبارة هايدغر. لقد حاول كثيرون تقديم إجابة عن ذلك السؤال، فانتهى رجُل الدين إلى أنّ تحقُّق المطلق يتمثَّل في الإله وحدِه، بينما ذهب الفيلسوف إلى أن المطلقَ يتجسّد في العقل، في حين رأى الفنّانُ في فنّه تَحَقُّقَ المُطلَقِ، بما يَطبعُه من تخطٍّ للزمن عبر الحضور مدى قرونٍ عديدة في شكل مادّي (تماثيل، ولوحات، مثلاً) أو غير مادّي (ألحان، وأشعار، وحكايات... إلخ).

ويبدو أنّ الأدب بأجناسه، إلى جانب الموسيقى، هو من أكثر الفنون التي حقّقت لنفسِها اختراقات حقيقية في الزمن، لاستطاعته ضمانَ الاستمرارية لنصوصه من خلال السهَر على انتشارها بشكل واسع بين ثقافات العالَم، ليكون تجلّياً للمطلق وبُرهانه، ولعدم تعرُّضه للاندثار، طالما أنه يُدَوَّن بين دفّتَيْ كُتب تضمن له التحرُّك مثل آلة حرب، بالمعنى الذي أعطاها إياه الفيلسوف جِيل دولوز.

ولا غروَ أنّ ما يسِم الترجمة هو شَغفُها بالأدب أساساً، لكونها اعتبرتْ نفسَها طريقاً إلى النصّ الأصل، وَفق الفيلسوف خوسيه أُورْتِغَا إِي غاسِيتْ، ولأنها أبدتْ دوما طموحَها غير المتحفظ إلى إعادة إنتاج نص مواز لما يُنعتُ بالأصْل، وأنها هي السبيل الأكثر نجاعة لتجاوز الحيِّز المحلّي، الذي يظهر فيه الأدب، الذي عادةً ما يظل حبيس مجاله الثقافي، لِتَفتَحه على ثقافات متنوّعة تكون أرْحب، ولتُقدِّمه لقُرّاء آخَرين لهم تجارب مختلفة مع النصوص، فتُدخِله الأفق الإنساني المطلَق. ولذلك نبَّهنا الروائي البرتغالي خوسّيه ساراماغو إلى أن "الكُتَّاب يُنتجون الأدب المَحلّي الوطني، بينما يُنتِج المترجِمون الأدب العالَمي".

ما يسِم الترجمة هو شَغفُها بالأدب وطموحها لتجسيده

ويتهيَّأ لي أن الألماني فريدريش شليغل (1772 - 1829) - وهو أحد أهمّ المُنظِّرين للرومانسية، في شذرة من نصوص مجلّة "أتِنِيُوم" وردتْ مترجمةً ضِمن كتاب "المطلق الأدبي" للمُفكّرين الفرنسيّين فيليب لاكو لابارت وجان لوك نانسي - قد أوْرَد حُكماً نقدياً في حق العرب، يقول إن "العرب لديهم طبيعة مثيرة للجدل إلى حدّ كبير (...)، وهوَسهم بتدمير الأصول أو التخلُّص منها بمجرّد الانتهاء من الترجمة، يميّز روح فلسفتهم. لهذا السبب ربما كانوا أكثر ثقافةً بشكل غير محدود، لكن بثقافتهم التي كانت أكثر بربريةً بوضوح من الأوروبيين في العصور الوسطى. البربري، في الواقع، هو مَن يكون في الآن عينه معادياً للكلاسيكية ومعادياً للتقدم".

ولا يخفى أن ما عالجَه فريدريش شْلِيغِل ذو صلة وطيدة بواقع الترجمة، وأنه ذو ارتباط مُباشر بمفهوم المطلق الأدبي بالضرورة، خصوصاً إذا ما استحضرنا أنّ الترجمة وثيقة العلاقة بالأدب، لارتباط قضاياها بقضاياه، طالما أنها جنس أدبي على حدة، حسب إِي غاسيتْ.

وأرجّح كثيراً أن شليغل ما كان لِيُطلق هذا الرأي لولا اطّلاعه على أعمال عربية مترجَمة، ولا أستبعد أن يكون قد قرأ "ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة"، وأرسطو في شرح ابن رشد له، وغيرها. والأكيد أنه لم يكن على إحاطة جيَّدة بالتاريخ الأدبي العربي، الذي كانت ألمانيا، على لسان أديبها الفيلسوف غوته، قد دعتْ إلى أن يكون ضِمن آداب العالَم المترْجَمة إلى الألمانية في أفق كتابة تاريخ لأدب العالَم وعلومِه؛ فقد غفل عن تبجيلِ العرب للقديم، ولا أدلَّ على ذلك في انتصارهم شعرياً للنزوع المحافظ فنِّيّاً، أما مُعاداتهم للتقدُّم فالتاريخ نفسُه يُثبتُ تقدُّم العلوم العربية قديماً، بدليل أن الغرب أخذَها عنهم، نظراً لسوقها الرائجة، وأنه ترجَمها إلى لغاته.

أما وصف شليغل للثقافة العربية بـ"البربرية"، فلا أستبعد أن تكون العبارة قد خانتْه، لأنه يَنمّ عن فهم لِلْبَربَرِيّ يُناقض ما كانت تَرومه الرومانسية، التي كان فريدريش نفسُه من روادها، من خلال سعيه إلى الإبداع فيها والتنظير لها. إن استعمال البربري بهذا المعنى فيه تعالٍ إغريقي وتحقيرٌ لثقافة الأغيار، واستناداً إلى الفيلسوفة والمنظِّرة للترجمة بَارْبَارا كاسان، يكون فيه إقصاءٌ من قِبَل اللوغوس على النهج الإغريقي لكل من لا نفهَمُه ومَنْ لا ينبغي الاختلاط به، وهذا نقيض الدعوة الرومانسية.

لذلك أرى أن المطلَق الترجمي هو مُضمَر الخطاب الرومانسي، اعتباراً لدعوته إلى إطلاق النصوص في فضاء الثقافة الإنسانية دون تمييز، لتخترق الأزمنة والأمكنة، ولتصهر آفاقَ الإبداع البشري صدوراً عن الإيمان بالإنسان أولاً وأخيراً.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون