المصير المحتوم

22 فبراير 2023
الدمار كما يبدو في عمل للنحّات السوري خالد ضوا (Getty)
+ الخط -

الموت أكثر الأسئلة العصيّة التي تواجه الإنسان، وأكثر الأسئلة التي ينتهي عندها الفنّ بصورته الواقعيّة. فالأعمال التي تتحدّث عن عالم ما بعد الموت، هي أعمالٌ تجري في الفنتازيا وفي أفلام الخيال العلمي أو في الأعمال السريالية التي تصوّر الأحلام؛ أي في العالم المركّب والمفترض بالكامل. لكن، واقعيّاً، تنتهي آلة الحياة مع بدء آلة الموت. والوجود برمّته مقسوم بينهما. بعيداً عن الاستعارات اللغوية التي قد تشبّه الحياة بالموت، خاصّة إن كانت حياةً مستلبةً. أو الاستعارة التي تشبّه الموت بالحياة، خاصّة عندما يحمل موت إنسان رسالة دينيّة أو عقائديّة. إلّا أنّ الفصام بين الحياة والموت فصامٌ مبرم.
 
بالتأكيد، جلجامش، في الملحمة البابليّة، هو المثال الأبرز الذي حاول أن يغلب الموت، وأن يقترب من الآلهة بأن يكون خالداً. وما جرى قبل رحلتهِ كي يحصل على عشبة الخلود، لا يقلّ دلالةً عمّا جرى معه بعد حصوله على العشبة، وقد أكلتْها الأفعى في النهاية. وعرف جلجامش أنّ الموت مكتوبٌ على الإنسان، بالصورة نفسها التي كُتب الخلود على الآلهة.

إذاً، لا مناص من مجيء الموت. الملحمة البابليّة تخلصُ إلى هذا بوضوح. لكنّها تخلص إليهِ بعد درسين آخرين سبقا رحلة جلجامش للحصول على عشبة الخلود؛ أحدهما جرى مع أنكيدو الذي جعلهُ الحبّ أُنْسِيّاً. وما إن صار أنكيدو إنساناً بمعرفته الحبّ، بمعرفتهِ المرأة، حتّى هجرته باقي الكائنات، حتّى أجفلت منه وابتعدت عنه. أمّا الدرس الآخر، فقد جرى مع جلجامش نفسه، الذي كان حاكماً ظالماً وساعدته قوّة الصداقة التي جمعته بأنكيدو على اكتشاف الخير في أعماقه. وهي قوّة فجّرت أعماقه حدّاً أنّه قتل خُمبابا، ورفض إغواء عشتار له، وأخيراً قتل ثور السماء. الأمر الذي دفع بالآلهة إلى معاقبته. ولا عقاب أكثر مضاءً من قتل صديقه أنكيدو.

كما لو أنّ الطبيعة والآلهة تقفان معاً في مجابهة الإنسان

إذاً، الملحمة، قبل الحديث عن حتمية الموت، تتحدّث عن الحياة التي دفعت جلجامش إلى رفض فكرة الموت. فقد عرف جلجامش الصداقة، وقبله عرف أنكيدو الحبّ. ولربما يصلح كلّ من الصداقة والحبّ، اللذين تمضي الملحمة في رحابهما، كي يكونا قوّتين يواجه عبرهما الإنسان عصف الحياة، فهو أعجز عن مواجهة حقيقة الموت.

وعالم الأحلام هو أكثر ما يصلُ الحياة بالموت، ولا يحتاج ما يجري فيها إلى الإقناع، إذ تدور في منطقة اللاوعي. ومن الأحلام التي ترد في الملحمة حلمُ جلجامش الثالث، ويَرد فيهِ على لسان جلجامش مخاطباً أنكيدو: "هل ناديتني أيها الصديق، لماذا أفقت؟/ هل لمستني، لماذا أنا خائف؟/ هل مرّ بنا إله، لماذا شُلّت أطرافي؟/ أي صديقي، لقد رأيتُ حلماً ثالثاً/ وكان حلماً مخيفاً كلّه:/ أرعدت السماء واهتزّت الأرض/ تلاشى ضوء النهار وهبط الظلام/ التمع البرق وتوهّجت نيران/ انعقدت السحب، أمطرت موتاً/ ثمّ خبا البرق وتلاشت النار/ وكلّ ما سقط صار إلى رماد".

الحلم الذي رآه جلجامش وصل إلينا بلا تفسير. المؤكد فيهِ أنَّ الزلزال الذي رآه جلجامش ترافق مع عاصفة رعديّة تسبّبت بحرائق، حتّى إنَّ السماء أمطرت موتاً. ومعروف أنَّ السماء، في الدلالات كلّها، إشارة إلى الآلهة.

يظهر في الحلم الثالث كأنّما الطبيعة، لا الآلهة فقط، تكاتفت كي تقهر الإنسان. كما لو أنّ الطبيعة والآلهة تقفان معاً في مجابهة الإنسان. أساساً ملحمة جلجامش تمثّل توق البشر لقهر الطبيعة، والتحرّر من أبرز حقائقها؛ أي الموت. لكن بما هو في مقدور الإنسان، فإنّ جلجامش وأنكيدو لم يمتلكا في وجه المصير المحتوم إلّا سلاحَي الحبّ والصداقة. 


* روائي من سورية

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون