رغم أنّ فترة أواخر القرن التاسع عشر كانت مرحلة نهضوية في تاريخ لبنان، حيث شهدت حراكاً سياسياً للجمعيات والصحف، وكذلك على صعيد الأدب الذي تطوّرت أجناسُه، وبرزت فيه أسماء جديدة، إلا أنّه من النادر الالتفات لما كان يجري على ساحة التشكيل، أو النظر إلى تلك المرحلة بوصفها عتبةً تأسيسية لما سيأتي بعدها خلال القرن العشرين.
"المدرسة البحرية في بيروت: تاريخ فني مقموع" عنوان المعرض المُقام في "غاليري الجامعة الأميركية" ببيروت حتى الأوّل من آذار/ مارس المُقبل؛ في محاولة لتسليط الضوء على رسّامي تلك الحقبة، واستكشاف المميّزات الأسلوبية التي اشتغلوا عليها في رسم لوحاتهم.
كُرّست الموضوعات الدينية في التشكيل اللبناني خلال القرن التاسع عشر، نتيجة ارتباطها بنشاطات الأديرة والرهبان التي تعود لفترة طويلة، ومن هنا فإن الإضافة التي حقّقها روّاد "المدرسة البحرية" هي أنهم توجّهوا إلى ما يقع خارج تلك الجدران، وتناولوا موضوعات جديدة ما كان ليتم تناولها من قبل.
زوارق وأشرعة وزُرقة ممتدّة لمدينة كانت تشهد - حينها - بواكير الحداثة العربية، كذلك هي لوحات إبراهيم سربيه (1865 - 1931) التي ضمّها المعرض، وتوثّق لأحداث بارزة من تاريخ ومعالم بيروتية، وفي القلب من ذلك المشهد يحضر المرفأ الذي استقبل السفن الألمانية التي حملت الإمبراطور الألماني غليوم الثاني في زيارته للسلطنة العثمانية عام 1895.
تأتي أهمية المعرض من كونه يحفظ أعمال هذه المدرسة التي تعرّضت للإهمال، وضاع القسم الكبير منها، حتى أنها لم تكن تُعرف بهذا الاسم الجامع، لولا الجهود التي بذلها التشكيلي مصطفى فرّوخ (1901 - 1957)، الذي قام بِسَكّ هذا المصطلح للتعريف بأعلام هذا التيار، ومن خلاله وصلت إلينا أسماء أُخرى إلى جانب سربيه، مثل سعيد مرعي وسليم الحداد وتوفيق طارق ودمشقية وآخرين احتوى المعرض جزءاً من لوحاتهم.
لم تقتصر اشتغالات "المدرسة البحرية" على بيروت وحدها، حيث يذهب مؤرّخو الفن إلى أنّ هذا التيار لا يمكنُ حصره في مدينة واحدة فقط، بل من الأدقّ الحديث عن مساحة أوسع امتدّت إلى طرابلس وإسطنبول، وكذلك المدن الداخلية مثل بعلبك وإن كان البحر لايحضر فيها موضوعياً.
في لوحات "المدرسة البحرية" تلتقي أساليب فنية مختلفة، من النمنمة الإسلامية إلى الرسم العسكري الذي تنامى في المدارس العثمانية، وهذا ما مهّد الطريق أمام الحركة التشكيلية الحداثية لتأخذ مداها في القرن العشرين.