المحكمة أو السكّين

26 اغسطس 2022
مشهد نفي الخليفة المنصور الموحّدي لابن رشد، للفنّان الفرنسي لويس فيغير (Getty)
+ الخط -

بالطَّعنات التي تلقَّاها سلمان رشدي، في عنقه وصدره وجنبه وكبده، لم تهدِّد المُدْية حياة الروائي، أو تنفّذ فتوى قديمة، بل أدَّت دوراً رهيباً في السعي لتدمير تراث هائل للنقد الأدبي الروائي، حاول من خلالها النقّاد، والباحثون، والمنظّرون في هذا المجال، أن يعفوا الراوي والروائي من تحمّل تبعات النص الروائي الذي يكتبه، أو من تحمّل المسؤولية عن أقوال وأفعال الشخصيّات التي يخلقها في الخيال داخل النص الروائي.

إذ يبدو أن حدّ السكّين ما يزال إلى يومنا، في ثقافتنا خاصة، هو  الذي يريد أن يحسم أمر هذه العلاقة، وذلك بالتأكيد - من خارج الأدب والنص - أن الراوي يتحمّل تبعات كلّ الشخصيات في كتابه، الصالح منها والطالح، القاتل والبريء، المُجرم والخائن والوطني والمناضل، المهزوم والمقاوم، على الرغم من أن الحادثة نفسها قد تُقبَل في التاريخ، على أنّها من الوقائع الثابتة، وتُرفض في الرواية، حين تتحوّل إلى المخيّلة.

ليست الفتوى فقط هي التي أفضت إلى طعن الروائي، بل هذا الإصرار الغريب لدى البشر على اعتبار الرواية تمثيلاً صادقاً وحميمياً للواقع من جهة، واعتبار الكاتب مسؤولاً عن جميع الشخصيات في الرواية، أو نسبة ما تقوله شخصية ما، بحسب هوى التهمة، لدى صاحب الاتهام. فالسياسي يحمّله مسؤولية الشخصيات التي تتدخّل في الفكر والسياسة، ورجل الدين يضع على عاتقه تبعات أي شخصية تقول قولاً ما في شؤون الدين.

تريدُ المُدية أن تنصّب نفسها - من خارج النص - حكماً نقدياً

والسؤال هو: لماذا لا يريد الناس أن يقتنعوا أن ما يُكتب في الرواية هو تخييل محض، وأنه لا يستمدّ من الواقع غير بضعة عناصر يعيد تركيبها، وإعادة خلطها، بما يتناسب مع عالمه الروائي الوهمي؟

والموضوع شائك للغاية وخارج نطاق دين معين، أو أيديولوجيا، فقد حوكم فلوبير بسبب روايته "مدام بوفاري"، وفي الترجمة العربية التي أنجزها محمد مندور مُلحق بوقائع تلك المحاكمة التي اتّهم فيها القاضي الروائيَ بأنه يُسيء إلى الأخلاق، ويسوّغ الزنا. وأهمّ ما في حكم البراءة، ليس إعفاء الروائي من الدعوة إلى الرذيلة، بل تبرئته من المسؤولية عن أفعال الشخصية، أي الدفع باستقلال النص الروائي من حيث المسؤولية القانونية والأخلاقية، عن الكاتب. ولاقى محمد المويلحي غضباً من روايته "حديث عيسى بن هشام"، وغضبت السلطة السوفييتية من "دكتور جيفاكو" لباسترناك، ومُنِعت رواية "يوليسيس" جيمس جويس من النشر في أميركا.

والرواية، أي رواية، لا تتضمّن شخصية واحدة، ولا قولاً واحداً، بل هي مجمع أفكار وأحداث وأقوال، فلِم يتحمّل الراوي أو الروائي المسؤولية عن أيّ شخصية من تلك الشخصيات؟ وكيف يمكن إذن أن يخلق لدينا الوهم بحقيقة الشخصية، سواء تلك التي يتبنّى أفكارها، أو تلك التي لا يوافق على ما تقول، أو تفعل، إذا كنّا نريد منه أن يقدّم لنا ما يرضينا في الكلام والفعل؟

لا حلّ لهذه المسألة، اللائحة طويلة وجوهر الاعتراضات واحد، بينما تختلف الإجراءات شدّة وعنفاً بحسب "طبيعة الثقافة" التي تتولّى الرد على الرواية. وينقسم عالمنا في رفضه للرواية بين المحكمة والسكّين، وكلاهما، يبدوان عدوّين لحرية الكاتب، أحدهما هو الرفض الناعم، والآخر هو الرفض العنيف القاتل.  

 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون