صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "القيادة في المجتمع العربي الإسلامي قبل الاستعمار: الأسس الاجتماعية، المرجعيات الثقافية، النماذج"، الذي يشتمل على عشر دراسات لعشرة باحثين عرب، من سورية وتونس واليمن وقطر والمغرب والأردن، متخصّصين في مجالات اللّسانيات، والتاريخ، والتاريخ العربي الحديث، والعلوم السياسية، والفلسفة، والمنطق، وعلم الاجتماع، والإناسة الدينية والسياسية. وقد حرّره الباحث مولدي الأحمر.
انطلق المؤلَّف الجماعي من ظاهرة مزدوجة مثيرة للانتباه بمفاهيم علم الاجتماع السياسي؛ يتمثّل فرعها الأول في ظهور حركات اجتماعية سياسية، لا قادةَ ذوي تأثير كبير لديها خلال أحداث "الربيع العربي"، لكنّها طالبت بتغييرات عميقة وثوريّة على مستوى إدارة الشأن العام بنيةً وممارسةً وثقافةً، أمّا الفرع الثاني للظّاهرة فهو يتمثّل في أنّ فئة الشباب هي المحرّك الرئيس للأحداث الحاسمة؛ ما يعني انفلاتهم خلال ذروة نشاطهم من تأثير القيادات "التقليدية".
وبناءً على ذلك، فإنَّ السؤال الأهم الذي يتعلّق بظاهرة "الربيع العربي"، والذي يُطرح في منطقتنا العربية، هو حول ثقافة العمل القيادي وأدواته وممارساته، وتحديداً تحوّلات العمليات الاجتماعية المنتِجة للقيادة في المنطقة، وهو المجال الذي تفتقر المكتبة العربية إلى الدراسات المركّزة فيه. إنَّ ضعف اهتمام الأدبيات الأكاديمية العربية بدراسة ظاهرة القيادة والزعامة ورصد عناصرها الأنثروبولوجية والسوسيولوجية التاريخية وجَّه فريق البحث، المشارك في هذا الكتاب، إلى طرح سؤال "القيادة في المجتمع العربي" كمقدمة لإصدارات مستقبلية تبحث ما يطرأ على هذه الظاهرة من تطوّرات.
يمثل الكتاب مقدمةً لإصدارات مستقبلية تبحث ما يطرأ على هذه الظاهرة من تطورات
برزت مسائل للباحثين متعلّقة بمفهوم "القيادة" في الأدبيات العالمية من وجهة نظر التاريخ الثقافي المحلي، وبالخصوص مفاهيم الرئاسة والإمارة والإمامة والزعامة؛ منها أنّه على الرغم من العدد الهائل للبحوث حول الظاهرة في الأدبيات العالمية، وبخاصة في العالم الأنكلوسكسوني، فإنَّ ظاهرة القيادة لا تزال غامضة على مستويات عدّة: مستوى تشكّل علاقة "الخضوع/ التبعية" بين القائد وأفراد مجموعته، ومستوى تلبُّس الشرعية بقائد يتحوّل في ظروف استثنائية زعيماً مُلهِماً ذا هامش كبير من الاستقلالية الاعتباطية في إدارة شؤون الحكم، حتّى من دون التقيد بالقانون، وتجاوُز سلطته أتباعَه المقربين إلى نسيج أوسع من الجماهير، ومستوى العلاقة بين ديناميكية الهويّات والتصوّرات الاجتماعية وبين بناء القيادة وممارستها، ومستوى تطوّر ظاهرة القيادة من حيث مفردات اللّغة والخطاب، ليس أقلّها وهجاً تطوّر دلالة تسميات القادة، وتحديداً كلمة "زعيم".
ويقر الباحثون بأن الأسئلة المعرفية التي تعرّضوا لشرحها جزءٌ ضئيل من أسئلة ظاهرة القيادة التي بلغ البحث فيها منذ أكثر من نصف قرن في الغرب الأنكلوسكسوني والعالم أشواطًا متقدّمة، وتطورَ من تسمية موريس غودلييه قادة المجتمعات القديمة التي تغيب فيها الصناعة واقتصاد السوق وبيروقراطية الدولة ومؤسّسات المجتمع المدني بـ "الرجال العظام"، إلى قادة المجتمعات التي عرفت تحوّلات كبرى من حيث التقسيم الاجتماعي للعمل، والمؤسّسات البيروقراطية الجديدة التي أصبح قائدها يدير مصالحها الإنتاجية وفق منظومة قوانين تحدّ كثيراً من اعتباطية رغباته.
لا يطرح كتاب القيادة في المجتمع العربي الإسلامي موضوعَ الزعامة في مجتمعاتنا التي عرفت تحوّلات راديكالية نتيجةً لبعض إصلاحات القرن التاسع عشر والتدخّل الاستعماري والسياسات التنموية للدولة المستقلة، وهي تحوّلات أفضت إلى تقسيم جديد للعمل غيّر أنماط القيادة وشروط إنتاجها ومواردها وأساليب عملها، بل إنّه يهتمُّ بالظاهرة في فترة التداخل الوظيفي بين حقول النشاط الاجتماعي، وانصهار مختلف مكوّنات المجتمع في القيادة، وفقاً لمفهوم مارسيل موس المتعلّق بـ "الظاهرة الكلية". نظريّاً، يُعنى الكتاب في ما يخص القيادة بالعناصر والروابط التي تجسّد علاقة القائد مع مرؤوسيه، مباشرةً كانت أو غير مباشرة، قانونيةً وضعية أو سيكولوجية - اجتماعية. ولأنَّ البحث يدرس القيادة في التاريخ العربي الإسلامي قبل الاستعمار، فقد واجه مفهوماً للقيادة تتداخل فيه مجالات النشاط الاجتماعي والانتماء والضوابط الصارمة في توزيع السلطة. ولمّا كانت نقطة انطلاقه ظاهرة الزعامة في الربيع العربي، فقد واجه أيضاً مفهوم الزعامة السياسية في مجتمعات هي عبارة عن فسيفساء من المجموعات المحليّة شبه المستقلّة التي تتحدّى سلطة الزعيم.
أوّل هذه النماذج نموذج الرسول محمد، الذي جاء بعقيدة اخترق بها حواجز "الشعوب والقبائل" وأقام مع أصحابه وأتباعه علاقة تبادل روحية ورمزية ظلّت النموذج المرجعي الذي يحاول الزعماء بعده اعتمادها. وقد ركّزت فصول الكتاب على نماذج متنوّعة من القيادة بعيدة الصلة عن النخب القيادية العربية الدينية والسياسية التي نعرفها اليوم؛ فالكتاب لا يؤرّخ للقيادة، ولا يتبع مبدأً كرونولوجيّاً في دراسة الظاهرة واستيفاء نماذجها، بل يبحث في أنماطها وآليات عملها؛ والهدف هو رصد خصائص القيادة وممارساتها تمهيدًا لفهم التطورات اللاحقة للظاهرة.
يتوقّف الكتاب عند سبع أفكار رئيسية، الأولى: في شهود الحوامل اللفظية المعبّرة عن علاقات القيادة تطوّرات ذات أسس لسانية وأنثروبولوجية - تاريخية، والمثال الأكثر تعبيراً مدلول كلمة "زعيم" الذي يراوح بين "الكفالة" و"التكذيب"، وقد تطوّر تاريخيّاً ليصبح مفهوماً سياسيًّا اكتسب إيجابيّته المعيارية من علاقته بمفهوم "الشعب"، الذي تحوّل في السياق الاستعماري إلى فاعل تحرّري، والثانية تتمثّل في أن النموذج لـ "القائد" في التجربة الإسلامية هو نموذج الرسول؛ ففي سيرته كان الشرف والحكمة والكرم والشجاعة خصالَه، كما كان زعيماً عرف كيف يخوض بأتباعه المخاطر ليحقق نجاحاً نموذجيّاً في تغيير الجزيرة العربية ثمّ العالم.
والفكرة الثالثة تتمثّل في تفعيل الزعماء السياسيين نموذج "الرسول - الزعيم" بوصفه خلفيّة لمناصبهم؛ إذ نجدهم تارة يلقّبون أنفسهم بـ "المعتز بالله" أو "المعتصم بالله" محاكاة لعبارة (رسول الله) الذي لا يمكنهم بلوغ مكانته، ونجدهم تارة أخرى، كما في حالة المتصوفة وأصحاب الزوايا الطرقية (ومنهم من يزعم أن له رسالة دينية إصلاحية)، يحاكون سيرة الرسول في الانزواء والتعبّد، ثم الكشف (رؤية الرسول)، ثم تجميع الأتباع وتأسيس الطريقة التي تتحوّل، في بعض التجارب، إلى حركة سياسية إصلاحية (السنوسية في القرن التاسع عشر مثلًا).
الفكرة الرابعة تتمحور حول ذكورية القيادة والزعامة في التاريخين العربي والإسلامي، وأن إحدى نتائجها كانت إهمال التصنيفات والأدبيات التأريخية ومدوّنات سير الملوك والمشاهير تجربةَ الزعامة النسائية، على الرغم من قلّتها؛ وهذا مؤشر دالّ على تلبّس الممارسات السياسية بالتمثّلات الذهنية، إذ أُقصيَت المرأة من الزعامة مرتين: على المستوى العملي، وعلى مستوى الذاكرة التاريخية والفهم، مع ندرةٍ في الكتب التاريخية المخصصة لهذه التجارب، والتطرق إليها عرَضيّاً في غالب الأحيان، وعدم الغوص في تفاصيلها في أثناء الكتابة عنها.
الفكرة الخامسة تتمثّل في عدم اتخاذ القيادة بالضرورة بعداً سياسيّاً مباشراً، فعلى غرار حال مديري الشركات اليوم، يتدرّج بعض أعيان المجتمع وفقًا لمعايير غير بيروقراطية في تبوُّء المسؤوليات الاجتماعية، مثل رئاسة الروابط الحِرفية ومشيخة الطرق الصوفية، ويحافظون على مراكزهم مُدداً طويلة، بل يجمعون أحياناً بين مختلف الحقول الاجتماعية، مثل التصوّف والنشاط التجاري والحرفي، فيحظون بالمساندة الشعبية الواسعة، وتنشئ معهم الدولة علاقات زبونية متوترة.
الفكرة السادسة هي ذات علاقة وثيقة بالسابقة، وهي تدور حول مسألة مفادها أنَّ التراتبية الاجتماعية، والنظم السياسية في التجربة العربية الإسلامية لم يضع أيٌّ منهما حواجز لا تُخترَق في إنتاج القادة؛ ففي النظم العسكرية الباتريمونيالية المتوارثة التي حكمت عدة بلدان عربية، لم تترسخ تقاليد سياسية ثابتة ومقيدة للفاعلين السياسيين، وكان يمكن أن يتبوّأ بعض الطامحين المغمورين اجتماعيّاً، أو حتّى بعض العبيد الذين يُشترَون من الأسواق، مكانةً قيادية بالعنف أو بالتدرّج في المناصب والمحافظة على جسور القرب من العامة، مثل مصطفى صاحب الطابع في تونس..
تتمحور الفكرة السابعة والأخيرة حول إعادة بناء الإرث القيادي والزعامي إلى حد ملاءمة مواصفات الزعامة وشروط اكتسابها في العصر الحديث، على الرغم من بعض القطيعة تاريخيّاً، فهذا الكتاب وإنْ وضعَ حدوداً تاريخية - سياسية لظاهرة الزعامة في العالم العربي الإسلامي، فإن التقيد الأنثروبولوجي والسوسيولوجي بتلك الحدود لم يكن ممكناً دائماً، خاصّة عند استطاعة أنماطٍ من الزعامة التأقلم مع التحولات الاجتماعية الحديثة.