حرب "إسرائيل" على غزّة، وقبلها حرب روسيا على أوكرانيا، رغم ما بينهما من فوارق تجعلهما على حافّة التضاد، ورغم ما بينهما من بعاد جغرافي وسياسي، فإنّهما لحظتان في المسار الغربي، لحظتان غربيّتان. يدافع الغرب عن نفسه في أوكرانيا، بل هو يستعيد نفسه فيها. ذلك أمرٌ ملحوظ من قرب، ولا يجادل أحد فيه.
مهما كانت طبيعة الحرب على أوكرانيا وما فيها من حقّ وباطل، فإنّ الغرب يخوضها، هي معركته، بل هي، على نحو ما حلقة في تاريخه. إذا اعتبرها البعض حرباً عالمية، إلى هذه الدرجة أو تلك، فإنّها هذه المرّة حرب ثالثة عجّل الغرب إليها، ولو أنّها قد تكون من أواخر معاركه، فالغرب ليس بعدُ في فتوّته، والأرجح أنه يقاتل عوداً على زمن لم يعد كلُّه له، بل استذكار لتاريخ لا يزال يهدّد بأن ينقلب عليه. مع ذلك فإنّ معركة أوكرانيا له، فهي حربه وإذا كان يستعير فيها من شبابه المولّي وانتصاراته الغاربة، فإنّ الأمر لا يبدو تماماً نفسه في معركة غزّة.
"إسرائيل" التي اعتبرها رودنسون واقعاً استعمارياً، ليست مع ذلك بالقرب نفسه من الغرب، على الأقلّ جغرافياً. مع ذلك نهض الغرب الأساسي، بكلّ همّته، لا للدفاع عنها فحسب، بل في دعمها للقضاء على شعب بكامله، ونصرتها في محاولتها تشتيته مرّة ثانية، بعد أن صحّ لها أن تفعله في مرّة أُولى. بدا واضحاً أنّ لـ"الدولة" البعيدة جغرافياً موقعاً في التاريخ الغربي، يجعلها جزءاً منه، ويجعل من حربها معركته التي يتهافت بكلّ قواه لدعمها، حتى في ما يبدو، لأوّل وهلة، منافياً لما يعتدّ به الآن، وما توصّل بالعسف إليه، من دعوات ومصطلح أخلاقي وقانوني وسياسي.
في حرية وحقوق شعب مرّةً، وفي اضطهاد وسحق شعب مرّةً أُخرى
الأمر يبدو لذلك على شيء من العجب. إذا كان الغرب يرفض، عن حق وبدون أن يكذّب نفسه، أو يرتدّ على قيمه ودعاويه اليوم، يرفض أن تغزو روسيا أوكرانيا، أو تهدّدها في أرضها، وأن تستهين باستقلالها وسيادتها، وأن تدعم انشقاقاتها، بل وتعمل على شقّها. إذا كان الغرب ينصر أوكرانيا في تصدّيها للهجوم الروسي، فإنّه هكذا يقف حيث أوصلته الحرب العالمية الثانية، يقف حيث قامت الأمم المتّحدة، وحيث اصطلح على حقوق الإنسان وحقوق الأمم والدول. في حرب كهذه يبدو الغرب معادياً للاستعمار، ومعادياً للتصفية العنصرية، ومعادياً للفرض بالقوّة والعسف، ليس الأمر نفسه تجاه غزّة.
هنا نجد استعماراً لا يزال يُثقل بلداً وشعباً، ولا يتزحزح عنهما، منذ ما يزيد عن سبعة عقود، ظلَّ خلاله يتمرّد على قرارات الأمم المتّحدة، ويرمي بها عرض الحائط، ويستمرّ في استعمار ليس الأطول في عصرنا فحسب، بل قد يكون الأوحد الباقي، بحجج توراتية هي العنصرية في هذيانها ومزاعمها وأكاذيبها. مع ذلك فإن "إسرائيل" الاستعمارية، قد تكون الكيان الأخير في العالم القائم على هذا الأساس. قد تكون الكيان الأخير الذي قام على طرد شعب، لا يمانع طرده للمرة الثانية.
مهما يكن ما قامت به حماس فقد قامت به لنفسها وعلى نفسها أوّلاً. هذا لم يأتِ، كما قال غوتيريش، من الغيب، بل هو متأرث وافد من تاريخ كامل، كان العسف الإسرائيلي فيه لا يمانع القتل بشتّى أشكاله، بل ويجد له دائماً أسباباً، أعذاراً وحججاً ومزاعم وتبريرات، ويستمرّ بل ويوغل فيه. وعلى حدّ تعبير غوتيريش فإنّ "إسرائيل" لم تكن لتعامل الفلسطينيين بمنطق آخر، يكفينا تعداد القتلى والأسرى على مدى سنوات لنعلم ذلك. أيّاً كان ما قامت به حركة حماس، فإنه ارتدّ عليها وعلى شعبها أوّلاً، ولا يصح تبريراً لقتل قد يصل، مع الوقت، إلى عشرات وربما مئات الألوف، فهذا قتل لا يستهدف تنظيماً أو جماعة فحسب، بل شعباً بكامله.
مع ذلك، يقف الغرب في غزّة كما وقف في أوكرانيا. يقف هنا وهناك مع نفسه، ولو بدا أنه في ناحية يعارض نفسه في ناحية أُخرى. "إسرائيل" تفعل في غزّة ما تفعله روسيا في أوكرانيا، بل هي في غزّة تواصل وتستطرد فيما يشبه، بل ويماثل ما تفعله روسيا، منذ وقت طويل. الغرب يجد نفسه مرّة في حرية وحقوق شعب، فيما يجد نفسه مرّة ثانية في اضطهاد وسحق شعب. يجد نفسه في موضعين متناقضين، وبلسانين ومنطقين. إذا كانت هذه الأكذوبة لم تجز، ولم تقبلها شعوبه، وتعرّت هكذا أو انكشفت، فإنّ هذا يعني أنّ الشعوب الغربية تتعلّم من التاريخ، ومن التجربة، فوق ما تتعلّمه سلطاتها، ما يعني أن الغرب الاستعماري، غرب الرجل الأبيض، لم يعد نفسه. لقد رسخ الآن منطق آخر وثقافة ثانية. الدرس التاريخي الذي تتعلّمه شعوب كاملة، هو ما يعد بإنسان وعالم جديدين.
* شاعر وروائي من لبنان