العالَم ضدّنا، كان هذا يقينُنا ولم نزح عنه طوال وقت. لا نعرف في ما كان ذلك، لكنّه كان بالنسبة إلينا طبعاً وإرثاً. يكرهنا العالَم ولا نملك دفعاً لذلك أو علاجاً. يكرهنا، ولفرط ذلك، صرنا لا نبالي ولا نسأل. ربّما كان السرُّ في عربيّتنا أو إسلامنا. ربّما لم يكن له أصل أو سبب سوى أنّنا أغيارٌ وآخرون، ليس سوى جنسنا ولوننا واسمنا.
هذا ما ألِفناه وتمرّسنا به، ولم نفعل حياله سوى مبادلة كُره بكرهٍ ونبذ بنبذ. كان ذلك مثار نقمتنا، وكنّا نُجهر به ونعلنه، لا نداري في ذلك ولا نخفيه. جرأتنا على المضيّ فيه، وإقدامنا عليه، مبعث فخرنا واعتدادنا، بل هما جزءٌ من عداوتنا وتحريضنا. ما دام العالَم ينكر علينا ذلك فإنّ حربنا هي، بشكلٍ أو بآخر، في الظاهر أو الباطن، معه كلّه. نحن في ذلك كلّه أهل حقّ، ويزيد من يقيننا بذلك ماضينا وحاضرنا وديننا وعقيدتنا. إنّه ميثاقنا الإنساني والسماوي أيضاً.
منذ كنّا، ومنذ أصبحنا، ونحن بهذا الميثاق مكروهون من بني الدنيا، وفي حربٍ مع أهلها وسادتها والمتولّين فيها. نفكّر هكذا ولا يهمّنا أنّ عدونا يفكّر مثلنا، وأنّه شأننا، يرى أنّه هو الآخر شعب الله، وأنّ دمنا هو قربانه، وأرضنا، على أيّ نحو كان، وعده وهبته. لا يهمّنا أنّنا هكذا نقابل عهداً بعهد، وميثاقاً بميثاق، وأنّنا صرنا هكذا، في صفقة حساب عقدها العالَم مع نفسه، وفي ندامة ألقاها علينا.
العالم يصحو. لقد انتهت أو كادت أن تنتهي حربُه علينا
لم يهمّه أنّنا لسنا فيها، وأنّنا في صحرائنا ومتاهنا الخاصّ لم نرفع سيفاً، ولا حتّى حجراً على من غاص هو في دمهم، ولم يملك حتّى فرصة الاعتذار لهم. إنّه ثانيةَ ألقى المسألة على عاتق من باعهم خطاياه وآثامه، واضطرّهم الى أن يشاركوه في الذنب، بل وسمهم بهذا الذنب، وتركهم تحت دمغته.
لا نقول إنّ "إسرائيل" هي الثمن الذي دفعه الغرب من دم غيره، ولا يزال يدفعه على حساب الآخر، ومن أرضه وأبنائه وشعبه كلّه. بدا ذلك في البدء طبيعياً، إذ كان الشعب الذي وقع عليه هذا الشؤم، لا يكاد يُعدّ بين الأمم، أي إنّه في الدرجة السفلى من القائمة، حتّى إنه لا يُعتبر بشراً إلّا بقدر من المجاز.
أن تكون عربياً أو مسلماً فهذا أمر لا يُعتدّ به، ولا ضير في أن يُلقى عليك جرمُ غيرك، فليس لك حساب ولا يبالي أحدٌ بكونك أجرمت أو لم تجرم. كان العالم خارجاً بالكاد من الحرب العالمية الثانية، والتفظيع باليهود أكبر من أن يتحمّله الغرب الذي فهم أنّ ما فعله الألمان يمكن أن يرتدّ على غيرهم من شعوب الغرب. والتاريخ شاهدٌ على ذلك. لم يمانع الغرب في تكليف مسلمين وعرب بأن يقوموا عنه بتلك الجائحة، ومع الوقت لبسوا جريمته بتفاصيلها ومسمّياتها. هكذا أمكن له أن يتبرّأ منها أو يكاد.
لكنّ "الدولة" اليهودية بالغت في ذلك، وبدا أنّها ليست بالبراءة التي تحتمل لمعدمي الهولوكوست، بل إنّها لم تمانع في أن تجري على أهل البلد العربي ما يفوق أو يُماثل الهولوكوست. لقد ألقت بهم في ما يُماثل "الغيتو"، وأعملت فيهم قتلاً، وطردتهم بالجملة من أرضهم وبيوتهم. هذا أمر لم يتّضح إلّا في وقتٍ لاحق، حين صارت فلسطين كلّها تحت سيطرة اليهود الذين استعصى عليهم هذه المرّة أن يطردوا أهلها الذين كادوا يقاربونهم في العدد. وقعوا هُم كما وقع الأهل في مأزق صعب، وأمام طريق مسدود. ها هم الآن بعد السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر يجدون فسحة في الجدار. فهذه المرّة يمكنهم أن يُطيحوا الأصليّين، ويطردوهم إلى خارج البلد.
لكن الغرب لم يكن هو ما كان عليه بعد الحرب العالمية الثانية. فهو قد راقب، عبر ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن، "الدولة" اليهودية وهي تنقلب إلى عنصرية فادحة، والعرب وهم يُقتلعون من أرضهم بيتاً بيتاً، وفرداً فرداً، في أفعال متّصلة كانت في الوقت نفسه سائدة وملحوظة. ثمَّ إن الغرب كان قد دفع من دم الفلسطينيّين ديّة الإجرام النازي، ولم يعُد التذنيب يعذّبه أمام الإجرام الصهيوني.
لذا لم يجد في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مبرّراً لجريمة ثانية، ولتفريغ فلسطين من أهلها مجدّداً. هكذا فوجئ الجميع، الإسرائيليون أوّلاً وقادة الدول ثانية، وموقف الشارع الذي كان يصدّق هذه المرّة ما تنقله الحواسيب، وربّما المحطات، من إجرامٍ شامل وحقيقي.
العالَم لم يعُد ضدّنا، لسنا الآن بعدُ يتامى الهولوكوست، لسنا الآن مذنبين بالوكالة، ولا نتحمّل بعد جرائر الغرب وذنب المحارق و"الغيتوات". فنحن الآن في "الغيتو"، وما يجري علينا صورة موسّعة للمحرقة، آلاف القتلى تحت الأنقاض وملايين المطرودين. إنّه "الغيتو" العربي. يمكننا الآن أن نفكّر بأنّ العالم يصحو علينا كبشر، ويتعامل معنا كبشر. لقد انتهت، أو كادت أن تنتهي، حربُه علينا.
* شاعر وروائي من لبنان