الضياع في المعرفة.. عشرون عاماً مع "ويكيبيديا" العربية

09 يوليو 2023
جيمي ويلز، أحد مؤسّسي "ويكيبيديا"، في أثناء محاضرة في ميلانو، 2019 (Getty)
+ الخط -

في التاسع من تمّوز/ يوليو 2003، انطلقت النسخة العربية من موقع "ويكيبيديا". لم يكن من الممكن أن يكتمل المشروع الطموح الذي انطلق مطلع عام 2001 في أميركا، كمعظم منتجات العولمة، وقوامه فكرة طوباوية بأن يُسهم كلّ البشر في إنتاج المعرفة، من دون أن تنطق "الموسوعة الحرة" بلسان عربي.

هكذا، تمرّ اليوم عشرون سنة على استنبات "ويكيبيديا" في ثقافتنا -وفي حياتنا اليومية على وجهٍ أدقّ- ولا يبدو أنّها قد أُخذت في الفضاء العربي على محمل الجدّ. هي لا تزال مُعلّقة بين ثقة ساذجة في ما تطرحه من معلومات، وبين عدوانية مبالَغ فيها تكاد تُنكر كلّ ما فيها.

وفيما يخوض بعضهم سجالات حولها بين التحمّس والإنكار، كانت "ويكيبيديا" تتحوّل إلى أحد مكوّنات الحياة الحديثة على أرض الواقع، حتى إنّها تبدو أحياناً وكأنّها عنصر من عناصر الطبيعة، وُجدت منذ الأزل، باتت مصدراً أوّلياً للمعرفة يُشكّل الطبقة الأُولى لكلّ فهم لاحق، ذلك أنّ الباحث العَجول عن معلومةٍ يكتفي غالباً بأُولى الروابط التي تتيحها محرّكات البحث، وقد عرفت "ويكيبيديا" مبكراً كيف تكون في الأسطر الأمامية كلّما اتجه أحدهم إلى شبكة الإنترنت ليعرف شيئاً ما. وفي الأثناء كانت تتطوّر بشكل مُنفلت، بل قل إنّها تتضخّم وتتشعّب، ومن ثَم تُفلت من كلّ قدرة على الضبط أو القراءة النقدية حتى استوت بعد عشرين عاماً كمتاهة لانهائية.

كيف أصبح هذا الكائن عملاقاً بيننا على حداثة سنّه؟ أعتقد أنّنا لا نعرف الكثير عنه رغم الاحتكاك اليومي معه. على الرغم من نطقه بالعربية، فإنّ جسمه يتغذّى أساساً من مواد لم تنبُت في تربتنا، وينمو وفق ميكانيزمات لا نعرف عنها الكثير، ومعظم تعقيداته واقعةٌ ضمن منطقة "اللامفكَّر فيه" من ثقافتنا. وفي الحقيقة، تميل الثقافات إلى سحب ما تعجز عن السيطرة عليه فكرياً إلى أرض مجهولة توضَع فيها كلُّ المعضلات غير المحسومة.

مرآة لتراكم المعارف في لغات أُخرى ونقص تدوينها في لغتنا

لم تكن "ويكيبيديا" -منذ البداية- غير صورة حيّة لواحدة من معضلات عصرنا، وما صعوبة الاشتباك مع القضايا التي تطرحها "الموسوعة الحرّة" إلّا نتيجة لنقص في الاصطدام مع المعضلة الأمّ؛ تضخّم المعرفة في زماننا. تجاوَز هذا التضخّم طاقة العقل البشري الذي طالما آمن الناس بقدراته اللامتناهية، بحيث باتت التكنولوجيا ملاذ العقل الفردي كي يَلحق بعض ما يُنتجه العقل الجماعي للبشرية ويبدأ في جهد ترتيبه، وإلّا بات الإنسان تائهاً كأنّه ذرّة في غبار الكون. تجاوزت المعرفةُ، بعبارة أُخرى، الحجم البشري بشكل نهائي وفارقت مقاساته، ولذا فلا مناص من أدوات جديدة لاصطناع ندّية مع المعرفة.

لو لم يطلق جيمي ويلز ولاري سانجر "ويكيبيديا"، لخرَج هذا المشروع من أذهان آخرين باسم مختلف؛ ففي المنعطف بين الألفيتين الثانية والثالثة، كان على البشرية أن تعترف بأنّ جهود المؤرّخين والباحثين ومجمل المؤسّسات الكلاسيكية لتدوين المعرفة، كالجامعات ومخابر البحث ودُور النشر، عاجزة عن مواكبة التراكم العلمي. يحتاج التوسّع اللانهائي للمعرفة إلى جهود لانهائية لمواكبتها، ووحدها دعوة البشرية قاطبة يمكنها تحقيق هذا الطموح، وقد وجد ويلز وسانجز في ثورات "التطبيقات الحرّة" الأرضية المثالية لتأسيس فكرة "ويكيبيديا"، فوفّرا لها المقوّمات التقنية، ومن ثمّ تركاها لتواجه معترك العيش بين البشر.

ومن إشكالية ملاحقة البشرية لتخزين المعرفة التي تنتجها، تتفرّع إشكالية أُخرى هي لحاق كل أمّة بما تُنتجه الأمم الأُخرى من معارف وتخزينها في لغتها كمدخل لاستثمارها داخلياً. وستظهر "ويكيبيديا" من هذه الزاوية بوصفها التعبير الأكثر مجاهرَةً بصعوباتنا في اللحاق بما تأتي به العلوم والآداب والفنون والتقنيات في العالم.

لا تزال الهواية ظاهرةً في معظم المنتج الويكيبيدي العربي

يُفترض أن يكون التأخُّر في إنتاج المعرفة حافزاً للتسريع في نقل المفيد منها، غير أنّ الوعي بهذا التأخّر يُستحضَر في متداول النقاشات العربية ضمن عملية جلد ذاتي لا تتوقّف، فحين تُذكر "الموسوعة الحرّة" في هذا السياق، تُستحضر ضمن مقارنات جائرة مع لغات أُخرى. وإمعاناً في التقزيم، تأتي هذه المقارنات مع نُسَخ "ويكيبيديا" في لغات مثل الإنكليزية والألمانية والفرنسية، أي اللغات التي تُنتَج أصلاً داخلها المعارف اليوم. منطق تلك المقارنات هو السخرية والتحقير، ومن النادر أن تقوم على تمرير عناصر الإبداع في إنتاج المادة الويكيبيدية، من جودة المقالات وثرائها المعرفي وتنوّعها وعمقها وحسن إخراجها ونأيها عمّا هو سجالي فجّ.

في كلّ ذلك، سنرى ونحن نتصفّح "الموسوعة الحرة" أنّها تلعب دور مرآة تنعكس فيها آفات ثقافتنا، فما قلّة الإنتاج داخل الموسوعة العالمية إلّا صورة عن قلّة الإسهام في إنتاج المعرفة عموماً، وما صعوبة نقل جديد العلوم إلى الضادّ غير نتيجة منطقية لتعطّل العربية في تسمية الأشياء رغم قدراتها التوليدية وما يكمن في أحشاء بحرها من صدَفاتٍ، وإذا وجدتَ مقالات في "ويكيبيديا" تقدّم أناساً بلا جدارة علمية أو أدبية، فلا تُحمّل الموسوعة وزر ما في البيئة العربية من بحث عن المظهرية وعدم الحياء من التزييف.

لم يكن أحد يتصوّر أن تكون الموسوعات كاشفة بهذا القدر لخبايا الأمم قبل "ويكيبيديا". أكثر من ذلك، تعبّر "ويكيبيديا" العربية عن مفارقة عجيبة: أنّ وجود الموسوعات قد يكون أكثر إيلاماً من غيابها، فقد لا نشعر بأيّ تأخّر عن المعرفة العالمية في غياب إنتاج الموسوعات، فيما يصبح هذا التأخّر مرئياً في حضورها. ثم إن موسوعةً مثل "ويكيبيديا" هي غير الموسوعات الأُخرى، إذ تفرض وجودها فرضاً داخل أيّ ثقافة، فلها رياح مواتية تحرّكها معادلات التاريخ والتكنولوجيا وربما السياسات الدولية.

"ويكيبيديا" مرآة قاسية ماثلة أمامنا رغماً عنّا، تشير يومياً إلى تراكم المعارف في لغات أُخرى ونقص تدوين جديدها في لغتنا. لا يقاوم هذا التأخّر إلّا المنهمكون في تطوير النسخة العربية بما يتوافر لهم من إمكانات بسيطة وروح مبادرة وقوّة دفع ذاتي. معظمهم من الهواة ولا يعيبهم ذلك في شيء، ولكن الهواية ظاهرة في معظم المنتج الويكيبيدي العربي.

وإذا كنّا نريد خيراً بهذه الموسوعة في بيئتنا العربية، فعلينا أن نعرف أكثر مجتمع الويكيبيديين (منتجي المحتوى داخل ويكيبيديا)، فهذا الحقل الاجتماعي بحاجة ملحّة إلى الإضاءة، بما فيه من مسائل فرعية مثل أولويات الكتابة الموسوعية ومنهجيات خطابها، وثقافة التطوّع والعمل الجماعي، والعلاقات المركّبة بين المحتوى المعرفي والمُتاح التكنولوجي. وقد بات ذلك مبحثاً سوسيوثقافياً نشيطاً في ثقافات أُخرى اليوم، ببساطة لأنّ "الويكيبيديّين" باتوا مؤثّرين في تلقّي منجزات المعرفة أكثر من أجهزة كبرى مثل الكتابة الموسوعية الأكاديمية أو الصحافة.

من يقرأ تاريخ "ويكيبيديا" سيعرف أنّ هناك بعض الأفكار الحالمة يمكن أن تجد طريقها للتحقيق. لكنه سيعرف أيضاً أنّ تحقيق هذه الأفكار قد يفضي إلى يوتوبيات مسكونة بالشياطين. هل "ويكيبيديا" مُنصفة مثلاً في تقديم وقائع القضية الفلسطينية؟ بل هل تسمح خياراتها التحريرية بضخّ ذلك الإنصاف؟

من البداية، راهنت "ويكيبيديا" على دمقرطة المعرفة، إنتاجاً واستهلاكاً، وقد حقّقت بهذا المفهوم السحري الكثير، لكنّها أنتجت مطبّات مُرافقة في الأثناء؛ استفحل التسطيح وانتشرت المغالطات، وأدهى من ذلك بات لها غطاء توثيقي في موسوعةٍ يزورها كلّ الناس. وحده تجذير الفهم بالوسيط الويكيبيدي يمكنه أن يقيَنا تلك الأمراض المنتشرة فيه.

وبما أن مشروع "الموسوعة الحرّة" رهان على دمقرطة المعرفة، فإنّ تجذير فهمنا لها هو في النهاية أحد الحبال المعلّقة لإعادة ترتيب علاقتنا بالمعرفة اليوم من جهة، وفرصة للنظر في علاقتنا بالديمقراطية في معان غير سياسية. وربما نجيب وقتها عن سؤال سياسي حارق: هل صحيح أنّنا -كما يردّد البعض- شعوب ممانعة للديمقراطية؟

لا ضير إن أتت "ويكيبيديا" إلى فضائنا العربي مثل مخترعات حديثة كثيرة، مُنبتة عن سياقات ثقافتنا. لا ضير أنّها أتت آلة جاهزة للتشغيل. لقد كسبنا رافعة تسرّع نشر المعارف وترتيبها، وما علينا إلّا فهمها لإحسان توظيفها. هذه الآلة قابلة للشحن بحسّ نهضوي لا يزال في طور التراجع منذ عقود في ثقافتنا. لنتخيّل أنّ "ويكيبيديا" كانت متوافرة لدى النخب العربية في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين. ذلك الحس النهضوي هو شرط حيوية الموسوعات، أيّاً كانت؛ ورقية أو إلكترونية، محدّدة بالمتخصّصين أو مفتوحة على الجميع.

"ويكيبيديا" أمر واقع ينبغي التعايش معه، بما يعني ذلك من صبر على الدوار الذي ينتجه الشعور بالضياع في متاهات المعرفة اللانهائية.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون