الريح هي السياسة وأعاصيرها، والبلّوط هم البشر ومآل سعيهم ومقاومتهم للانكسار أمام العواصف التي يجيء بها الزمن، ويحفل بها عالم السياسة. وعنوان رواية الكاتب الألباني سنان حسّاني (1922 - 2010) "الريح والبلّوط" يقول الأمرَين معاً، فالسياسة في الرواية تُلازم حياة الشخصيات؛ بل تصنعها.
الرواية التي أعادت "دار الحوار" السورية نشرها حديثاً بترجمة محمد موفاكو، نُشرت بـ الألبانية عام 1973، وصدرت ترجمتها العربية للمرّة الأُولى عن "مؤسّسة الأبحاث العربية" في 1986؛ العام الذي تولَّى فيه حسّاني رئاسة يوغسلافيا. تفيد معرفة جزء يَسيرٍ من تجربة السياسي والروائي الألباني في إضفاء بُعد ذاتي للرواية؛ حيث يلمح القارئ حرارة التجربة، وانعكاس التغيُّرات التي شهدتها يوغسلافيا على الطبقات الاجتماعية وعلى الأفراد. الرواية سياسية الطابع، وتُقرأ على أنّها ذاتية الجماعة التي يرصد حسّاني مآلاتها؛ أي الألبان الذين تعرّضوا للتمييز ضدّهم من قبل الصرب في يوغسلافيا، وهذا عهد قديم يعود إلى الزمن الذي كانت فيه يوغسلافيا دولة واحدة، قبل أن تنتهي إلى سبع دول.
تنتخب الرواية عدّة شخصيات للحديث بأصوات انتمائها، وهي بصورة عامّة تقرأ تيارات متصارعة، إمَّا عبر الولاءات للأحزاب أو لجهاز الأمن، وهي متصارعة في رؤيتها للاقتصاد ولشكل النظام ولدور الأفراد، وفي رؤيتها لتجربة الحرّية ككلّ منذ البدء؛ أي حرّية المُلكية والعمل والدراسة. ويبلغ تفاوت الرؤى وتصارُعها حدّاً يفني بعضها الآخر. وفي هذا، تعيد الرواية القارئ في الظاهر إلى الدولة الاشتراكية، حيثُ تغيب حرّية الفرد، حيثُ الفرد مجرّد بيدق بلا قيمة في يد الحزب، ومجرّد لَبِنة في بناء أكبر منه؛ في بناءٍ نعرف أنّه سوف يطحن إرادته ويرسم مصيره.
حُكمٌ سلخ البشر عن طبيعتهم وأضفى عليهم طبائع مصطنعة
تدور الرواية في مجالٍ رحب إذاً، وهو تيه الأفراد وصراعاتهم إزاء خياراتٍ كانوا قد أخذوها بمحض إرادتهم في مرحلة من حيواتهم. لكنّ الأحوال تتغيّر، ويلعب الزمن لعبته الأثيرة بأن يجعل المرء يقف ضدّ نفسه، بأن يرى انهدامها، ويجد نفسه مضطرّاً للاعتراف بالهزيمة.
ولتأكيد هذا الانقلاب الجذري في حال الشخصيات، اختار حسّاني بطل روايته الأساسي رجُلاً ينزل من الجبال، رجُلاً يبدأ من أعتى المجد. وهو ليسْ؛ رجلٌ من "الأنصار" التابعة للحزب الشيوعي، ثوري، قاتَل من أجل بلده؛ يدخل إلى مكتب الحزب الذي يُساعده على إيجاد مسكن في فندق، وبحُكم الولاء وما يمثّله ليسْ، يعيّنه الرفاق رئيساً لمجلس البلدية. وخلال رئاسته يعمل على نشر ثقافة التعاونيات، وكأنما يرفد النظام بالمجتمع، إذ يصبح المجتمع مجنَّداً لدى النظام. ولكن هذا عهد أخذ يأفل خلال السرد. والرجل النزيه الذي أراد أن يكون مثالاً جيّداً للآخرين، ينحتُ الزمن، ويمحوه تدريجياً. يستخدم في امحائه رفاقَهُ الذين لم ينزلوا من الجبال، لم يقاتلوا، وإنّما بنوا أمجادهم من المكاتب. الأمر الذي جعله يشعر بالاغتراب حتى مع رفاقه، الذين أخذوا يتآمرون عليه، يراقبونه، يُملون عليه، ويصطادون عثراته.
وهذه مسائل يضعها حسّاني في إطار يشمل التجربة الاشتراكية ككلّ، إذ بدا أنّ القلاع تُهدم من الداخل. تُهدَم بالوشاية، وبالمؤامرات الضيّقة، وبتغليب الولاء على الكفاءة، والانتماء الحزبي على الأحقّية. تعرض الرواية صورة الانهيار تلك، عرضاً بطيئاً، متهادياً في الإطار العام، لكن في الحيز الشخصي من حياة ليسْ، وعلى الرغم من المقدّمات الطويلة التي مهَّد عبرها الراوي لانهيار حياة ليسْ الشخصية، إلا أنَّها بقيت نهاية درامية؛ زوجته هجرته، بعدما خانته مراراً مع شابّ كان مكلَّفاً بمراقبته؛ وأرسل ابنه إلى الإصلاحية كي يوقف شذوذه وانحداره بسبب سلوك الأم، التي دفعها فرْقُ العمر بينها وبين زوجها ليسْ إلى التفكير في نفسها؛ وأخيراً، أُصيب ليسْ بالعمى. وبدا أنّ ذلك الرجل الذي استقبلته المدينة فاتحاً من الجبال انتهى بصورة لم يكن فيها لأحدٍ أن يعترف بماضيه، حتّى أخلصُ أصدقائه. وفي هذا التحوّل؛ يرى القارئ ما فعلته عقود الوشاية بالبشر؛ ما فعله الفساد السياسي العامّ بالناس، كما لو أنَّ الحُكم، حُكم الحزب، قد سلخ البشر عن طبيعتهم الأُولى، وأضفى عليهم طبائع من صنيعته.
ترصد الرواية، في 270 صفحة، مسارات لشخصيات من مشارب عديدة. لكن يبقى ليسْ الأمثولة التي يدفعها حسّاني كي تشير إلى سِياق الانحدار العام. ومن حولهِ، ينهار الأصدقاء القدامى، من حوله تنهار القِيم القديمة. ينشأ جيلٌ من الوُشاة واللصوص، بدل جيل المقاتلين والمزارعين. لكنّ الشخصية الفارقة التي تترك تساؤلاً عن بقائها وكأنّما لا يعبرها الزمن بعواصفه، هي شخصية ابن أخيه - وهو الراوي - الذي يبقى وفيّاً له. موقعه في الحياة دفع به إلى أن يكون وفيّاً، لأنّ حياته سارت في تقاطعات مصيرية مع مسيرة عمّه ليسْ الحزبية. وموقعه في السرد اقتضى ثباته، إذ إنّ حسّاني بمعونة الراوي، ابن الأخ، قدَّم وجهة نظر منحازة؛ تعزل الأفكار عن تطبيقها.
كما لو أنّ مقولة الرواية هي: إنّ العطب ليس في الأفكار، وإنّما في فساد البشر الذين يوقفون نموّ الأفكار لخدمة مصالحهم الآنية، ويحدّون من استخدام الأفكار، لتحقيق غايات السلطة. الرفاق هم مَن يفرّغون الأفكار مِن مضمونها، ويجعلونها محض شعارات، كي يستمرّوا باستغلال الآخرين. فهُم يُثبِّتون حركة الأفكار، وتوقها إلى فضاء أكثر رحابة. وإنّهم يقتلون الأفكار نفسها، كي يصيروا مخلَّدين.
تقاطعات عديدة مع الواقع، يقف عندها القارئ. ولو أنّها رواية تنتمي إلى نوع أدبي لم يعد يُكتب، إذ تنتمي إلى الأدب الاشتراكي. لكن كما لو أنّ الزمن ينفخ عبر صفحاتها، ينفخ وينادي، ينفخ ويطلق إنذاراته، بأنّ أعاصيره قد تأخذ بلداناً في طريقها، ليس فقط تجارب أو أحزاب أو أنظمة، وهي، في النهاية، روايةٌ تبحث عن عبرة.
* روائي من سورية
بطاقة:
سنان حسّاني روائي وسياسي كوسوفي، وُلد في مملكة يوغسلافيا عام 1922، ومع انهيار المَلَكية التحق بوحدات الأنصار التابعة للحزب الشيوعي عام 1941، واعتقل عام 1944 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. يعدُّ من الشخصيات الرائدة في الأدب الألباني. نشر أول رواية بالألبانية عام 1957، بعنوان "بدأ العنب ينضج". وله "ليلة عكرة" (1961)، و"حيث يتفرّع النهر" (1963)، و"الولد حامل الوسام" (1967)، وغيرها. تحوّلت روايته "الريح والبلّوط" إلى فيلم أحدث ضجة عند عرضه عام 1979؛ إذ قرأ التجربة اليوغسلافية بين عامي 1948 و1966 بروح نقدية عالية. عُيّن رئيساً ليوغسلافيا عام 1986 قبل أن يرحل عام 2010، ودُفن في بلغراد.