لم أكن أدري عندما ذهبت هذا الصيف إلى قرية ايركي البحرية في منطقة البريطاني لزيارة إيتيل عدنان وسيمون فتال أنني ذاهب لأودع إيتيل عدنان. الآن والليل يخيّم على خليج الحمّامات في مكالمة سريعة وصوت حزين أعلمني صديقي نجوان درويش أن إيتيل غادرت قبل ساعات.
فجأة انضغط الزمن رأيتني أنا و"حياة" قبل أربعين سنة مع إيتيل وسيمون فتال، في ذلك الربيع البعيد جاءت تونس للمشاركة في البينالي العربي الأول. أرى خيال صورتها منعكساً في زجاج قهوة الانترناسيونال جنب صديقتها سيمون فتال الرفيعة الطويلة بسحنتها الفينيقية الإغريقية؛ تتحرّك مع إيتيل مثل ملاك لامرئي. نمضي للشارع ونعود غاطسين في عرق حرارة حزيران/ يونيو تونس. إيتيل مأخوذة بمشاهد المدينة تقول أشياء مقتضبة عن تونس التي زارتها قبلها بسنوات ورأت بورقيبة الرجل القصير يتحرك بعصبية مثل ممثل هزلي وهو يغادر الإذاعة. رأت تونس العربية المشرقية المتوسطية الكوسموبوليتية ذات الملمح الإيطالي والتي كما تقول عنها إيتيل كانت لها منذ قرطاج حوارات مع العالم.
كانت في الزيارة الأولى قد أرسلتها إحدى المجلات الفرنسية لكتابة تحقيق عن النسيج والفخار التقليدي. جاءت هذه المرة بكتابها الحروفي ذي الشكل الأكورديوني للمشاركة في البينالي العربي الأول. قالت في حوار مقتضب إن فعل الخلق فعل شعري وإن العالم قصيدة طويلة وما نكتب هو نتف من هذه القصيدة. تركت كتابها "خمس حواس لموت واحد"، الذي نقله يوسف الخال إلى العربية، وقرأت عن جبل تاملباس الذي أحبّته... ثم رأيتني في بيروت في مقهى الاكسبريس جالساً معها على الرصيف، ثم في باريس في شقتها بشارع جاكوب حين استضافتني ومنحتني ركناً في الشقة وطاولة للكتابة كتبت عليها أجزاء من تحقيق عن زيارات الصهاينة الأولى للقاهرة، ثم غادرت فجأة.
ترسم كما تكتب وتتحدث بشكل غريزي متّبعة حدسها
وتواصلت لقاءاتنا وحواراتنا. كانت إيتيل مزيجا من طفلة ورسولة، تسكعنا في باريس وبيروت وتونس ورأيتها ترسم بتلك السرعة الفائقة كما يفعل جماعة نيويورك في تعبيرهم التلقائي والآتي من الأعماق التي كثيراً ما يتجنبها الناس. هي ترسم كما تكتب وتتحدث بشكل غريزي متبعة حدسها.
رافقتها في لقاءات باريس في "ربيع الشعراء"، الذي ينتظم كل ربيع قرب شقتها في شارع مادام. وفي لوديف، وفي مؤتمر الكتاب في الدائرة الخامسة بباريس، نقلتُ ونشرت كراريسها الشعرية عن دار التوباد، أحببت كتبها "نساء ومدن" و"الست ماري روز" روايتها المفردة و"باريس حين تتعرى"...
تراني أفكر فيها كلما مررت في ساحة سان سولبيس ورأيت الحمامات الزجاجية تطير فوق النافورة. أرى إيتيل جالسة على رصيف المقهى المواجه للكاتدرائية المهيبة حتى وإن كانت غائبة. أحببت رسومها ولوحاتها الزيتية وألوانها السعيدة وصورها الشعرية الغنائية السريالية، أحببت رؤاها الفلسفية الغريزية هي أيضا، فإيتيل لا تتعاطى التجريد، كل ما يصدر عنها ممتزج بحياتها... كانت إيتيل منحازة باستمرار للإنسان المقهور، كتبت عن الجزائر الثورة، وعن العراق الذي حوله الأميركان إلى فرن احترق فيه شعبه وعن الهندي الأحمر الذي سقى بدمه وهاد كاليفورنيا، الهندي الذي يبعث اليوم من رماد قوة أخلاقية روحية لا مرئية تعذب جلاديه.. وعن فلسطين بالطبع.
آمنت أن فعل الخلق فعل شعري وأن العالم قصيدة طويلة
عندما انتهت المكالمة الحزينة مع نجوان استعدت صورة إيتيل وهي شابة في الأربعينيات في مقهى الانترناسيونال. تقول لي وضعت "كتاب البحر" و"كتاب الموت" ويليه "كتاب النهاية"، لأن الموت ليس النهاية... أجل الموت ليس النهاية.
إيتيل الشاعرة والرسامة والروائية وكاتبة السيرة وأستاذة فلسفة الفن في جامعة بركلي وكاتبة التأملات والمقالات الفكرية والصحافية، منذ ركنها القديم في صحيفة لوريون دي جور باللغة الفرنسية. إيتيل المفردة في ميدانها، خاضت تجربة الموت بيد أنها بالتأكيد لم تنته.
إيتيل؛ أي ريح خريفية ولدتها؟
كتبت يوماً عن جذورها تقول:
"عشت مع شخصين الواحد منهما غريب عن الآخر. تربيتي في المدرسة كانت تعتمد على الكتب بدون أن تكون لها أي علاقة بلبنان حيث كنت أعيش، كنا ثلاثة أشخاص من ثلاثة عوالم مختلفة. وهذا ليس بالشيء التراجيدي بيد أنه مهم ما دامت المعضلة لا تقتلك فهي ترتفع بك، تساعدك... التاريخ هو الذي يكتب كتبي. أتمنى أن أتحدث عن شيء آخر ولكن ذلك مستحيل، غيرينيكا لوحة بيكاسو لدي هي القيامة العربية والرسم لدي يعكس الجانب العالمي.
أحب الموسيقى كغوص فيها، لقد ساعدتني عندما كنت أدرّس تاريخ الفن، ثمّة معنى خفي في الفن التجريدي كما في الموسيقى. لا يتطلب الإيضاح والشرح، كتابة الموسيقى كما في الرسم وفي الكتابة هو أن تقبض على الإيقاع كما تفعل العصافير التي تنتظر التيار الهوائي الذي إذا ما وجدته سافرت".
إيتيل، أجل، الموت ليس هو النهاية.
* شاعر ومترجم من تونس