"الحياة الآثمة".. عن وجهٍ آخر للعنصرية

03 مارس 2023
ماريز كوندي في منزلها بغوادلوب، أيلول سبتمبر 1986 (Getty)
+ الخط -

في واحدة من أجمل الحبكات الروائية، تُقدّم ماريز كونديه (1937) من غوادلوب روايتها "الحياة الآثمة" (دارا سرد وممدوح عدوان، بترجمة رندة بعث، 2021). والحياة الآثمة هي لعائلة الراوية، لا الروائية كما أتصوّر، التي نشأت في أُسرة من السود، ذهب كلّ فرد من أفرادها في طريق مختلف، وربما مُعادٍ لمذهب الآخر، الجدّ والأب أو الأخ أو العم أو الحفيد أو الحفيدة.

تختفي الراوية بضمير المتكلّم من الكتاب طوال الوقت. إنها الذاكرة التي حفظت الحكاية، والعين التي رأت أجزاءً منها في الأوقات التي وعت فيها ما يحدث حولها، لتظهر قريباً من النهاية، وفي اختفائها تُقدّم لنا سيرة العائلة؛ إذ تبدأ من الجدّ الأوّل الذي يخرج من الفقر إلى العمل في قناة بنما، ثم ينتقل برفقة أحد الزنوج الأميركيّين إلى أميركا.

ستكون للنهاية المأساوية التي انتهى إليها صديقُه، وقد قُتل على يد مجموعة من السكارى البيض، القرار الحاسم، لا في مصير هذه الشخصية، بل في مصائر جميع الشخصيات الأُخرى. فألبير لوي، وهو الجدّ الذي يستمرّ قليلاً في الحياة، سيستمرّ طويلاً جدّاً في عالم الرواية، بإرثه من المال والأولاد والبنات، وتراثه الفكري القائم على التعصّب للعرق الأسود الذي يصل به، وبمن يسير على طريقه من أبنائه، إلى ما يشبه العنصرية.

تقديم لصورة العنصري الذي يرفض قيَم التعايش الممكنة

تُسجّل ماريز كونديه انتقالات حرّة بين الفصول، وبين الشخصيات التي تتبع سيرة حياتها، وهي تملك من الشجاعة والنزاهة الفكرية الكثير لتُسجّل أضرار تلك العنصرية التي يظهرها السود، هذه المرّة، ضد البيض، لأنهم "الأعداء الطبيعيّون"، وضدّ الخلاسيّين (وهُم أولئك الذين وُلدوا من أبوَين مختلفَي العرق) لأنهم "لقطاء مشينون". تلك الأضرار التي لا تُصيب البيض، إذ تغيّبهم الروائية عن روايتها، بل السود أنفسهم، أي أولئك الذين باتت العنصرية لديهم سلوكاً جسدياً وفكرياً.

هذه هي الرسالة: لا صراع بين أبيض وأسود هنا، ولا حديث عن مظلومية تطاول السود من المضطهدين البيض، كأحداث، بل كحالة، أو كروح حلّت في نفوسهم، وأمرضتهم، وحوّلتهم، في واحدة من أخطر ما يمكن أن يطاول شعب، إلى التماهي بعدوان العنصرية.

يبدو الإثم هنا متحوّلاً، فالروائية، تُفسح المجال واسعاً أمام الراوية كي تقدّم لنا صورة العنصري الذي يرفض قيم التعايش الممكنة. فألبير لوي يتخلّى عن ابنه البكر، ويتناسى وجوده حيّاً، ثمّ يتجاهل موته تماماً، لأنّه اختار حياة أُخرى لا يوافق عليها، وتزوّج امرأة من البيض. ولا يقدّم أبناؤه من بعده حلولاً إنسانية لهذه المشكلة التي عطّلت حياتهم، فقد بات قياس اللون هو الذي يتحكّم في قرار أي واحد من بين الإخوة الرجال حصراً، بصرف النظر عن خياراتهم الفكرية المتباينة. بل إنّ ألبير لوي يتحوّل إلى مالك أرض ذي طبيعية استغلالية قاسية تنتهج نهج المستغلين "البيض" الذين يكرههم. ويزيد الرواية تشويقاً بنيتُها الفنّية التي تعتمد على تقديم الأحداث مبتورة، صاعقة، مثل موت بيرت الابن البكر، وتأجيل التفاصيل إلى فصل آخر متأخّر.

الحياة الآثمة فصل جديد من مأساة يصنعها البشر لأنفسهم. 


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون