ينتقد الكاتب العراقي علاء اللامي في كتابه "نقد الجغرافيا التوراتية خارج فلسطين ودراسات أخرى" (مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2020) جملة دراساتٍ وأبحاثٍ لباحثين عرب يكشفون عن عدم تطابق الجغرافيا، كما ترسمها التوراة اليهودية، مع الجغرافيا الفلسطينية، ويعيدون موضعة هذه الجغرافيا في مناطق أخرى، في جنوبي وغربي الجزيرة العربية. ويسعى اللامي كما يقول إلى "إعادة موضعة الحدث التوراتي، وبضمنه قصة شعب إسرائيل القديم وشبه المنقرض، في التاريخ الفلسطيني". ويضيف إلى هذا قوله إنه يقْدم على "إعادة الموضعة هذه" تحديّاً "لما فعلته وتفعله الاستراتيجيات التأليفية التوراتية ذات النزوع الصهيوني، الهادفة إلى قلب المعادلة وجعل تاريخ فلسطين الطويل والعريق حيثية فرعية صغيرة من التاريخ والرواية التوراتية لاعقلانية ولا تاريخية".
الواضح أن هذا الكاتب يتّجه نحو هدف مزدوج؛ الأوّل، نفي النزوع الصهيوني لجعل تاريخ فلسطين "الطويل والعريق حيثية فرعية صغيرة من التاريخ والرواية التوراتية"، والثاني "إعادة موضعة الحدث التوراتي... في التاريخ الفلسطيني". وبالطبع، لا يمكن الوصول إلى الهدف الأول كما يظن إلا بتحقيق الهدف الثاني، أي إثبات التطابق بين الجغرافيا الفلسطينية والجغرافيا التوراتية. ولهذا كرّس معظم صفحات كتابه لنفي ما ذهب إليه باحثون، على رأسهم الراحل كمال الصليبي، من أدلة على عدم تطابق الجغرافيتين، ليصل إلى أن تاريخ فلسطين ليس "حيثية صغيرة من التاريخ والرواية التوراتية". وهو أمر توصّل إليه باحثون ذَوو مستويات رفيعة مثل الاسكتلندي كيث وايتلام والأميركي توماس تومسن والفلسطيني نور مصالحة، من دون حاجة إلى نقد ما سماه "الجغرافيا التوراتية خارج فلسطين"، بل بنزعهم لقبضة الخطاب التوراتي الخانقة الممسكة بتاريخ فلسطين.
المثير للانتباه في هذا الكتاب قولُ الكاتب إنه بصدد "قراءة نقدية تاريخية تحتكم إلى الوقائع والأدلّة والتوثيق المحكم والمنهجية الدقيقة ما أمكن". ولكنّ القراءة الشاملة لهذه "القراءة النقدية" كشفت لي أنها لا تقوم على أساس احتكامٍ إلى وقائع وأدلّة وتوثيق محكم ومنهجيّة دقيقة، بل يؤسسها صاحبها على ما تقوله كتابات آخرين (حتّى من دون فحص أدلّتهم أو العودة إلى أصولها المترجمة عنها)، وبعضهم ينتمي إلى ما يُسمى "علم الآثار التوراتي" الذي لا يمت للعلم بصلة، لأنّه يسعى إلى إثبات "صحّة" تصوّراتٍ مسبقة ثابتة في أذهان أصحابه مصدرها الخطاب التوراتي ولا تغايرها أيّ مكتشفات معاكسة من أيّ نوع، من أمثال وليم أولبرايت وعضو بعثة التنقيب في آثار إيبلا جيوفاني بتيناتو. وبعض هؤلاء يحاول "عقلنة" هذه التصوّرات ونقد الجانب الأسطوري فيها من أمثال إسرائيل فنكلشتاين ونيل سلبرمان.
يحاول مطابقة الجغرافيا الفلسطينية والجغرافيا التوراتية
كما أن المؤلّف يعتمد على تفسيرات أمثال الطبري وابن كثير للقرآن الكريم، وهي تفسيرات منقولة عمّا يسمى "الإسرائيليات" ولا يمكن أن تكون شواهد علمية، كما أثبتت الباحثة آمال ربيع في كتابها "الإسرائيليات في كتاب الطبري" (2001) والباحث محمد حسين الذهبي في كتابه "الإسرائيليات في التفسير والحديث" (من دون تاريخ). وهو يصل إلى إثبات "فلسطينية الجغرافيا التوراتية" على الضد من أطروحة الراحل كمال الصليبي التي تنسب جغرافيا التوراة إلى منطقة عسير في غربي الجزيرة العربية، ومَن تابعه مثل الباحث زياد منى، وفرج الله ديب؛ وعلى الضد من أطروحة كل من أحمد عيد وفاضل الربيعي سواءً في نسبة هذه الجغرافيا إلى غرب الجزيرة العربية بشكل عام أو إلى اليمن بشكل خاص.
هذا لا يعني أن الموضوعة التي يطرحها هؤلاء الباحثون فوق النقد، بل يعني أن صاحب كتاب "نقد الجغرافيا التوراتية خارج فلسطين" لم يسلك مسلك النقد المستند إلى "وقائع" و"وثائق" "وأدلة". فهو يبدأ كتابه بتقرير أن "مدينة القدس الفلسطينية" هي ذاتها "أورشليم" المذكورة في التوراة، وأدلته التي يستند إليها هي ممّا اصطنعه "آثاريون توراتيون"، كالقول بالعثور على قطعة أثرية عام 1926 وعليها نقش اسم أورشليم. وهو نقش تبيّن أنه أضيف من قبل التوراتي الأميركي وليم أولبرايت إلى كسرة فخار عُثر عليها في تل الدوير الذي أطلقوا عليه اعتباطاً اسم "لاخيش" التوراتي، أخذاً من قِبَل من نقّبوا فيه لاسم قرية أم القيس القريبة منه، بعد إزالة ألف التعريف وقراءته على أنه "أم لكيس" وعبرنة الاسم ليصبح "لاخيش" (لدينا مقالة أولبرايت التي أدخل فيها هذه الإضافة ونشرها عامَ 1941).
أما القول بأن الاسم "أورشليم" واردٌ في آثار مدينة إيبلا فلا يقلّ خطأً عمّا سبق، لأنّ القائل بهذا كان الإيطالي بتيناتو في تقارير أخرجها للصحافة ودحضها فيما بعد رئيسُ البعثة الإيطالية باولو ماتيه وقارئ النقوش ألفونسو آرتشي، وكلها وقائع موثّقة في الدوريات الأميركية التي تناولت ما عُرف بأنه تلفيقات بتيناتو. والغريب أن الكاتب يجزم بأن فنكلشتاين مثلاً "يقدّم حشداً مهمّاً من الأدلّة الملموسة على فلسطينية الجغرافيا التوراتية"، من دون أن يقدّمها ويفحصها كما فحصها علماءُ آثارٍ غير توراتيين ولم يجدوا دليلاً على نسبتها إلى التوراة وأحداثها. بل وأظهروا أنهّا ملفقة، بما في ذلك النقش المسمى "نقش ميشع"، وبأن المنقبين كانوا يستخدمون مخيّلتهم الخصبة، كما رأى بيتر جيمس في كتابه "قرون الظلام" (1991) أو يظنون، كما هو حال كاثلين كينون وهي تنقب في مدينة فلسطينية وتعلق بالقول إنها تظن وترجح أن الأحداث التوراتية الفلانية وقعت فيها! من دون أن يكون بين يديها دليلٌ ملموس على هذا.
يؤسس المؤلّف كتابَه على ما تقوله كتاباتُ آخرين
والأغرب أن يعتبر الباحث أن ما طرحه الراحل كمال الصليبي "تكهنات... تعتمد أولاً وأخيراً على المقابلة اللغوية في الأسماء ضمن علم فقه اللغة المقارن". وفي هذا خطأ بائن يمكن أن يكتشفه فوراً من قرأ الكتاب. لقد اعتمد الصليبي على مقاربة ألسنية، هذا صحيح، ولكنه اعتمد أيضاً على المقاربة الطوبوغرافية في قراءة وتقدير المسافات بين الأمكنة التي يتحدّث عنها النص التوراتي، واعتمد أيضاً على قراءة النصّ العبري وأرجعه إلى حروفه الساكنة قبل أن يُدخِل عليه من يُسمون المسوريتيين حركات الإعراب بعد سنوات طويلة من موت العبرية وخروجها من الاستخدام، بالإضافة إلى تصويب قراءة نقوش الحضارة المصرية القديمة والآشورية التي قرأها "التوراتيون" في ضوء معتقدات مسبقة على أنها تتحدّث عن فلسطين وجغرافيتها. وفوق كل هذا يأتي عدم وجود أيّ أثر مادّي دالّ على حدث من أحداث التوراة في فلسطين مما قد يضيف قوة إلى ما ذهب إليه.
أمّا نفي الباحث لعلاقة أرض قبط (Egypt)، التي ألصقت بها الترجمة السبعونية اليونانية اسم مزريم التوراتية إلصاقاً، بالجزيرة العربية، أو نفي عربيّة لغتها، فهو يدل على عدم اطّلاعٍ على أبحاث أهمّها وأقدمها أبحاثُ عالم الآثار المصري الثقة أحمد كمال باشا (1851 - 1923) الذي أثبت عروبة اللغة المصرية القديمة، ووضع معجماً (من 22 مجلداً) منعه الفرنسيون والإنكليز الذين كانوا يهيمنون على علم "المصريات" آنذاك من نشره. كما يدلّ على عدم اطلاعٍ على آخر نتائج التنقيبات في شمال غربي الجزيرة العربية التي أظهرت صلته بثقافة أرض قبط منذ الألفية الثانية ق. م. (أعمال منتدى دراسات الجزيرة العربية في المتحف البريطاني، 28 - 30 تموز/ يوليو 2011).
ومن الغرائب أن يضمّ الباحث جازماً إلى ما يسمّيه أدلةً "تنسف أسطورة انعدام الآثار الأركيولوجية التوراتية في جغرافيا فلسطين"، "مخطوطات البحر الميت" (الأصح "لفائف البحر الميت") التي يرجعها الباحثون إلى فترة تمتدّ ما بين القرن الثاني ق. م. والقرن الميلادي الأول. وهذا الجزم يبعث الشك في أن يكون الباحث قد قرأ كتاب الصليبي بعناية لأن الصليبي لم ينفِ "استقرار اليهودية منذ وقت مبكّر في فلسطين"، ولكن موضوع كتابه يتعلّق بأزمنة وأمكنة أقدم، جرت فيها الأحداث التوراتية قبل أن تُكتب بعد مئات السنين، وكان حدوثها في المكان الذي أشار إليه بحثُه الألسنيّ المحكم حسب اعتراف علماء ألسنيين، وما رافقه من استدلالات.
ثمة شك في أن يكون الباحث قد قرأ كتاب الصليبي بعناية
وممّا يثير الشكّ أيضاً رفضه قول الصليبي "ما زال علماء الآثار يبحثون في فلسطين عن دليل واحد قاطع على أن البلاد التوراتية كانت هناك فلا يجدونه"، واحتجاجه عليه بما هو مدوّن "في بلاد الرافدين خلال ما يسمى السبي البابلي... وفي العهد الكلداني". ذلك أن الصليبي لم يقل
بعدم وجود ألواح بلاد الرافدين والسبي وما إلى ذلك، بل قال بأن قراءة هذه الألواح في ضوء الأفكار المسبقة الشائعة هي قراءة خاطئة، وطالب بقراءتها مجدّداً بعد استبعاد ما رسّخته تقاليدُ الخطاب التوراتي من أنها تتحدث عن غزوات في فلسطين، بينما هي تتحدّث عن غزواتٍ آشورية وبابلية لمناطق في الجزيرة العربية. وأنا شخصياً اكتشفتُ حين قرأتُ الألواح البابلية والآشورية التي جمعها الأميركي جيمس بريتشارد في كتابه "الشرق الأدنى القديم" (1958) صحّة ما ذهب إليه الصليبي.
ويبدو لي أن اطلاعات الباحث في الحقل الذي يبحث فيه عابرةٌ وعجولة، وخصوصاً حين يتبنّى بحسمٍ أقوال الكتّاب الصهاينة عن وجود "أركيولوجيا توراتية" في فلسطين. فلو كان لديهم أثرٌ من هذا النوع لوضعوه في ما يسمى "متحف إسرائيل". في قلعةٍ يطلقون عليها اسم "قلعة داود" في القدس على سبيل المثال، وهي حسب علماء مثل الأيرلندي ماك آلستر (1920) مبنى رومانيّ. في هذا المتحف، حسب دراسة الباحثة نادية الحاج "وقائع على الأرض: صياغة الذات على الأرض وفي الممارسة الأركيولوجية في المجتمع الإسرائيلي" (2001)، مجرّدُ صورٍ هولوغرامية (صور ترسمها بثلاثة أبعاد أشعةٌ في الفضاء)، لا آثارَ مادية ملموسة. هذا المتحف يخلو من أيّ أثر أركيولوجي توراتي ممّا يحسمُ الباحثُ بوجوده.
أمّا عبارته التي يقول فيها "يستطيع حتّى القارئ غير المتخصص إذ يفتح أمامه خريطة فلسطين القديمة أو المعاصرة أن يجد في مواجهته حشداً كبيراً من الأسماء الكنعانية والعبرانية والآرامية والفينيقية"، فهو قولٌ فيه تخليطٌ يقترب من تعمّد التضليل، لأنّ خريطة فلسطين القديمة لا توجد فيها أسماء عبرانية. أمّا إن كان في ذهنه ما يسميها "الخريطة المعاصرة"، فهي تلك الخريطة التي بدأ رسمَها اللاهوتيّ الأميركي إدوارد روبنسون حين زار فلسطين عام 1838، حيث نثر على خريطته - وهو يحمل التوراة في يد وورقة في اليد الأخرى - الأسماءَ التوراتية؛ وتابعه آخرون جاؤوا بعده. ويمكن العودة في هذا الصدد حتّى إلى كتابات صهاينة من أمثال ميرون بينفنستي الذي يروي حكاية اغتصاب أسماء الأماكن والمدن الفلسطينية وعبْرَنَتِها بالتفصيل (كتاب "المشهد المقدس: تاريخ الأرض المقدسة المطمور منذ عام 1948"، 2002) ويتحدث عن صناعة الخريطة التي أنجزها والده، وأنجزها صهاينة آخرون بأوامر من أحد رؤوس عصابتهم (بن غوريون) منذ وقت مبكر في عام 1949.
* كاتب وناقد فلسطيني