اعتبرَ النقدُ العربي في مراحل عديدة من عمره أنَّ لجوءَ الرّوائي إلى الرمزية في الكتابة الروائية تعبيرٌ عن الخشية من بطش السلطة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، فالرمز حمايةٌ، ويمكن أن يكون تأويله وقراءته على كثير من الوجوه منفذاً للتملّصِ من المسؤولية في حالِ الحساب الأمني. فهل هذا صحيح؟ هل التقنيات وليدة المواجهة مع الواقع، أم أنّها تشتغل في حقل مستقل، وتعمل من أجل تطوير النوع بعيداً عن ضغوط الواقع أو أسئلته؟ أم أنَّ الرواية نفسها، كنوع أدبي، تحتاج إلى الرمز والمجاز والاستعارة وغيرها من الوسائل التي تضفي على الكتابة معنى أن يكون فنّاً؟
واللافت في هذا الشأن هو أنَّ واحدة من تلك السلطات قد لا تقبل الرمز نفسه أحياناً، وقضية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ لا تزال ساخنة حتى اليوم، والرواية مُثقلة بالرّمز، وقد بالغت جهات المراقبة في تفسير الرموز إلى أن وصل بها الأمر للمطالبة بمصادرة الرواية، والقصة معروفة جيداً في الثقافة العربية، وإذا كنّا نظن أنَّ الرمز يُخفي المقاصد، ويحمي الروائي من البطش، فقد تسلّل أحدٌ ما إلى "المقاصد" أو فسّرَ الرمز على هواه، وأعاد إنتاجه لإدانة الروائي والرواية، والمعروف أنَّ السلطة السياسية استجابت لمطالب المنع، ورفضت الموافقة على نشر الرواية في مصر. والظاهر أنَّ الرمز يواجه كثيراً من المصاعب والأخطار في الأنظمة الباطشة، والمجتمعات المحافظة المتعصّبة، وذلك لأنَّ تفسيره يأخذ في الغالب منحىً عدائياً. والطريف أنّ معظم النقاد في الغرب المؤسِّس للرمزية اعتبروا أنَّ استخدام الرموز خيارٌ تقنيٌّ، وهي أقرب إلى أن تكون محاولة لتجربة الكتابة بتقنيات مختلفة، تعبّر عن اتجاه لا يوافق على السائد الذي استهلك في التعبير عن الواقع الآخر السابق.
كثيراً ما تبالغ جهات المراقبة في تفسير رموز الروايات
والرواية لا تحمل هويتها القومية أو الوطنية من التقنيات، بل من رؤية العالم، أو من تفاصيل الحياة التي تعيد خلقها وإنتاجها من جديد في نصٍّ خياليٍّ، بينما يمكنها دائماً أن تستخدم تقنيات أخرى مُستعارة من ثقافات بعيدة أو قريبة. ولهذا فإنّ رواية مثل "الحياة الآثمة"، لماريز كونديه، لا تُكتب إلّا في بلد عانى أهله من العنصرية، ورواية مثل "العطر" لزوسكيند، من الصعب أن يكتبها روائيٌّ من البلاد العربية، ورواية مثل "الحرب والسلم" لتولستوي، هي رواية روسية بامتياز، أمَّا "الصخب والعنف" لفوكنر فهي أميركية، بينما تنتمي "مئة عام من العزلة" لماركيز إلى كولومبيا أو إلى أميركا اللاتينية، وتنتمي "قصر الشوق" إلى مصر، بل إلى القاهرة حصراً، وهكذا.
وهنا تتجلّى العلاقة بين الأدب والواقع، أي في تلك الاستعارات التي يمنحُها الواقع للروائي، أو يأخذها الروائي من الواقع، لإعادة ترتيب الأحداث فيه وفق الرؤية التي يقترحُها، بينما تعمل التقنيات دور الوسيلة أو الشكل الذي يقدّمه الروائي لعرض الواقع. هل التقنيات مستقلّة فعلاً عن النص الروائي أو عن الواقع؟ من حيث الظاهر يبدو الشكل، أو التقنية الروائية، مستقلّاً، أو عالمياً، وقد يُبتكر في مجال قومي ما، ولكنه يستطيع عبور الحدود دون أن يكون لديه أي جواز سفر يحدّد هويته.
* روائي من سورية