استمع إلى الملخص
- قصة أبو نواس وخلف الأحمر تبرز أهمية فهم القواعد التقليدية قبل كسرها، حيث طُلب من أبو نواس حفظ ونسيان ألف مقطوعة شعرية قبل نظم الشعر، مما يعكس أن التجديد الشعري يتطلب أساسًا تقليديًا.
- في ظل التغيرات الثقافية الحديثة، يُنظر إلى الاحتراف كعائق أمام الإبداع، رغم أنه شرط أساسي للفن، مما يبرز التناقض في اعتبار الاحتراف نقيضًا للفن.
انتشر مقطع للشاعر البحريني قاسم حداد يحضّ فيه المهتمّين والهواة على إهمال تعلّم البحور الشعرية، إذ يرى – تيمّناً بنصيحة أستاذٍ له – أنّ من يشغل نفسه بالبحور سينسى الشعر. ليست التصريحات العجيبة بغريبة عن الشعراء، ولذا كان التّقسيم الصحيّ المديد في تاريخ الشعر العربي بين شاعر وناقد، أو شاعر وراوٍ، حيث يمسك الناقد أو الراوية تلابيب الكلام عن الشعر، ويترك للشاعر تدبيج القصائد من دون تنظير لها أو فيها، أو للشعر أو فيه.
سيترافق هذا التصريح بأمرين، أولهما خبر قديم وصل إلينا بروايات عديدة، والثاني خبر حديث يرتبط بحداد نفسه. الخبر القديم هو القصة المشهورة حين سعى أبو نواس إلى خلف الأحمر كي يدلّه على طريق الشعر، فأمره بحفظ ألف مقطوع للعرب بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة، وبعد أن حفظها عاد إلى خلف فأمره بإنشادها ثم نسيانها، وبعد أن نسيها أَذِن له خلف بنظم الشعر.
من البداهة القول إنّ أبا نواس لم ينس ما حفظه بطبيعة الحال، وإنّما المراد "إتقان" صناعة الشعر باختلاف أشكاله قبل البدء بالكتابة. أي إنّ خلفاً أراد من الشاعر إدراك الصندوق وما فيه، والتفكير داخله، قبل أن يُتاح له التفكير خارج الصندوق وخارج القواعد. وليس مصادفة أن أبا نواس ارتبط بالتجديد الشعري، وكأنّ المراد من هذا الخبر أنّ التجديد مرتبط ارتباطاً جوهرياً بمعرفة القواعد "التقليدية" قبل أن يكون ثمة تجديد. ما التجديد أصلاً إن لم يكن ثمة قديم يُجدَّد فيه ومنه؟
وفي واقع الحال، آخر من يُسعى إليه في صناعة الشعر هم الشعراء، إذ سيُثقلون على التعليم بوطأة تجاربهم الشخصية، وجعل ما هو شخصيّ قاعدة عمومية قد تصلح لغيرهم وقد لا تصلح. ولكنّ كلام حداد ليس بمستغرب في زمننا هذا، زمن موت كل شيء؛ إذ قتلنا الأيديولوجيا والناقد والمؤلّف، وحكمنا على الوزن في الشعر بالموت، لا لشيء إلا لأننا ظننّا أنّ الوزن والقافية حمولة أزمنة ماضية لا بدّ من التخفّف منها كي ندخل الحداثة وما بعدها وما بعد بعدها.
ثمة تركيز غريب من بعض الشعراء على نسف تجارب من قبلهم
ولكن، أليس المتنبّي أشدّ حداثة من حداثيينا؟ ألم تكن لبدوي الجبل حصة كبرى في الأعداد الأولى من مجلة "شعر" الحداثية؟ أثمة من يجرؤ على تجاهل الجواهري حتى في تسعيناته التي كانت تسعينيات القرن العشرين؟
حين طُلب من محمود درويش تعريف الشعر أجاب بأنه لا يعرف تعريفاً للشعر، غير أنه يعرف "ما ليس شعراً". مثال درويش هنا مقصود، إذ كان خير من طوّع الوزن والقافية في أزمنة الحروب التي شنّها "فرسان" قصيدة النثر على كلّ ما له رنّة "خارجية"، من دون أن يُقنِعونا بتعريف لتلك الموسيقا الداخلية التي يرطن بها كلّ من لا يكتب الوزن. ونتذكّر هنا سخرية الماغوط اللاذعة من زملائه الحداثيّين الذين إذا قلت لأحدهم: "المتنبي" ثلاث مرات يسقط مغميّاً عليه!
ليس كلامي هنا موازنة أو مفاضلة بين الموزون وغير الموزون. فالشعر في مكان آخر بالمطلق، والوزن والقافية والموسيقا (الخارجية أو الداخلية أو التي بين بين) محض أدوات، لا غاية في ذاتها. بل إنّ ما أقصده هنا التركيز الغريب من المثقفين والشعراء كلّما كبروا على نسف كلّ ما ومن قبلهم من تجارب، بصرف النظر عن حبّي لكثير من قصائد قاسم حداد. وهنا تتلازم التصريحات مع الجائزة المستحقة (جائزة الأركانة) التي نالها حداد، بحيث قد يُفهَم من كلامه ومن سياق زمن الجائزة أن الشعر لا يكون إلا كما يريد قاسم حداد، أو أنّ الحظوة لا تكون إلا حين نفكّر خارج الصندوق مع أنّنا لا نعرف ماهية ذلك الصندوق أساساً.
تُنسَب إلى بيكاسو عبارة: "تعلَّم القواعد مثل محترف، بحيث يتاح لك كسرها مثل فنّان". بصرف النظر عن صحة نسبة العبارة، نجد تمييزاً دقيقاً بين الاحتراف والفن، بحيث يكون الأول شرطاً لازماً وكافياً، ودرباً جوهرياً وأساسياً لا غنى عنه لكل فنّان. وما يحدث اليوم من تصريحات ونقاشات ومهاترات وشجارات ليس إلا تركيزاً على موضوع أوحد هو "الاحتراف". ففي ظلّ الأُمّية الثقافية المرعبة التي نعيشها اليوم، وتوفّر منابر النشر والكلام لكلّ من امتلك ميكروفوناً أو حساب فيسبوك، بات "الاحتراف" سبّة ونقيضاً للفنّ، بدلاً من أن يكون في مكانه الفعليّ: شرطاً جوهرياً للفنّ بحيث لا يكون له معنى أو قيمة من دونه.
والاحتراف يستلزم معرفة القواعد، وتعلّمها، وتبيُّن ذلك الصندوق المكروه قبل نسفه والتفكير خارجه إلى حدّ أننا صرنا في فلاة جدباء كلُّ ما فيها خارج من دون أن يكون ثمة داخل يُحتكَم إليه أو يُقارَن به. وحين يصبح الاحتراف سبّة على ألسنة المحترفين، لا عجب أن يكون كلّ (أو جلّ) ما هو خارج ذلك الصندوق مثيراً للشفقة.
* كاتب ومترجم سوري