"هذا الكتاب لم يُعد متوفّراً للبيع". تَظهر هذه العبارة، منذ أيام، على موقع "دار فايار" الفرنسية، مُعلِنةً أنّ النسخة الفرنسية من كتاب المُؤرّخ إيلان بابه (1954) "التطهير العرقي في فلسطين"، والتي أصدرَتها بترجمة بول شملا عام 2008، لم تُعد متوفّرة، من دون تقديم أيّ تفسير لذلك.
بدأت القصّة حين نفدت نسخُ الكتاب، الذي صدر بالإنكليزية عن "وان ورلد بابليكايشن" في لندن عام 2006، من "مكتبة بوان دو جور" في الدائرة الباريسية الخامسة، فطلب صاحبُها باتريك بوبوليسكو مزيداً من النُسَخ، ليُفاجَأ بأنّ "فايار" أوقفت تداوُل العمل بشكل كامل منذ السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
ولاحقاً، برّر مسؤولو الدار، في تصريحات لموقع "أكتياليتي" ActuaLitté، إيقاف تسويق الكتاب بانتهاء حقوق نشره في السابع والعشرين من شباط/ فبراير 2022. لكن، لم يفُت الموقعَ التنبيه إلى أنّ أكثر من 21 شهراً تفصل بين "انتهاء حقوق نشر" الكتاب وإيقاف تداوُله في الأسواق، والتساؤل: لماذا في هذه اللحظة بالذات؟
21 شهراً تفصل بين "انتهاء حقوق نشر" الكتاب وإيقاف تسويقه
يؤكّد التوقيت أنّ سحْب الكتاب مرتبطٌ بشكل مباشر بالعدوان الإسرائيلي المستمرّ على غزّة منذ أكثر من شهرَين. وإن كان الموقع الفرنسي قد فضّل تقديم فرضية مفادُها الرغبة في "عدم صبّ الزيت على النار في لحظة متّوترة بالفعل"! فالحقيقة هي أنّ الأمر لا ينفصل عن حالة السعار في فرنسا، والغرب بشكل عامّ، إزاء أيّ رواية تُناقض السردية الصهيونية.
في هذا السياق، اعتبرت "الثورة الدائمة" Révolution Permanente، التي تصف نفسها بأنّها "منظَّمة سياسية ثورية" تناضل من "أجل إعادة بناء أممية الثورة الاشتراكية"، عبر موقعها الإلكتروني، بأنّ سحْب الكتاب يؤكّد "المدى الكامل للهجوم الرجعي الجاري حالياً، والذي من الضروري في مواجهته الاستمرارُ في إدانة الإبادة الجماعية المستمرّة في فلسطين وتواطؤ القوى الإمبريالية، وعلى رأسها فرنسا".
وأضافت المنظَّمة بأنّ "الحاجة إلى بناء حركة واسعة تطالب بتقرير مصير الشعب الفلسطيني وزوال الدولة الصهيونية أصبحت أكثر أهمّية من أيّ وقت مضى، لأنّه - وكما يشير إيلان بابه - فإنّ الطريقة الوحيدة لوضع حدّ لـ التطهير العرقي هي القتال ضدّ نظام الفصل العنصري الإسرائيلي من أجل فلسطين منزوعة الصهيونية ومحرَّرة وديمقراطية، من النهر إلى البحر".
يكشف إيلان بابه في "التطهير العرقي في فلسطين" (صدرت نسخته العربية بترجمة أحمد خليفة عن "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت عام 2007)، كيف جرت عمليات التطهير العرقي في فلسطين سنة 1948، وكيف كان الترحيل والتطهير العرقي جزءاً جوهرياً من استراتيجية الحركة الصهيونية؛ وهو ما ينقض الرواية الإسرائيلية؛ حيث يؤكّد بابه أنّ طرد الفلسطينيّين لم يكن مجرّد "هروب جماعي وطوعي للسكّان"، بل خطّة مفصَّلة جرى وضع اللمسات النهائية عليها في اجتماع عقده دافيد بن غوريون في تلّ أبيب في العاشر من شباط/ فبراير 1948، بحضور عشرة قادة صهيونيّين، وتضمّنت أوامر صريحة لوحدات الهاغاناه باستخدام شتى الأساليب لتنفيذ هذه الخطّة.
ويوضّح بابه بأنّ تنفيذ تلك الخطّة، التي يشدّد على كونها جريمة ضدّ الإنسانية من وجهة نظر القانون الدولي، استغرق ستّة أشهر. ومع اكتمال تنفيذها، كان نحو 800 ألف فلسطيني قد أُرغموا على النزوح إلى البلدان المجاورة، ودُمّرت 531 قرية، وأُخليت إحدى عشرة مدينة من سكّانها.
يأتي سحب الكتاب في وقتٍ شهد فيه ارتفاعاً كبيراً في مبيعاته؛ فنصف المبيعات منذ صدوره كانت خلال العام الجاري، وأكثرها كان بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي. وبحسب موقع "إديسات" Edistat، الخاصّ بإحصائّيات مبيعات الكتب في فرنسا، فإنّ 158 نسخةً منه بيعت بعد التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر.
حال "فايار" ليس سوى صورة مصغَّرة عن حال فرنسا اليوم
نشرت الدار الفرنسية الكتابَ قبل سنة من مُغادرة كلود دوراند (1938 - 2015)، منصبه مديراً عاماً للدار في 2009، وهو الذي عُرف عنه دفاعُه عن حرّية التعبير، وقد سبق أن كتب في صحيفة "لوفيغاور" قائلاً إنّ إحدى ويلات الحياة الفكرية في فرنسا أنّه حين تنفد الحجج ضدّ شخصٍ نريد إعدامه، نُشهر ضدّه اتّهامات جاهزة بمعاداة السامية، والعنصرية، والتحرّش بالأطفال.
بعد 15 عاماً، تبدو "فايار" - مثل فرنسا - مُختلفةً تماماً؛ فقد وضَع رجُل الأعمال اليميني المتطرّف فانسان بولوري يده مؤخَّراً على "مجموعة هاشيت" التي تتبع لها الدار، ضمن استحواذه على وسائل الإعلام ودُور النشر الرئيسية في البلاد. وفي حزيران/ يونيو الماضي، عُيّنت إيزابيل سابورتا على رأس الدار، وأعقَبت ذلك مغادرةُ كتّاب ومفكّرين ومحرّرين احتجاجاً على المساس باستقلاليتها.
أيّاً كان، فإنّ حال "فايار" ليس سوى صورة مصغَّرة عن حال فرنسا التي وقّع أكثر من 1300 باحث وأكاديمي فيها بياناً نشره موقع "ميديابارت" في الخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أدانوا فيه مناخ التهديد والرقابة الذاتية وانعدام حرّية التعبير في البلاد، والترهيب والتشهير والقيود المفروضة على الخطاب العلمي داخل الجامعات منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر.
أخيراً، ليس "التطهير العرقي في فلسطين" الكتاب الوحيد الذي تحجبه "فايار". في موقعها الإلكتروني، تضع الدارُ نبذةً مختصرةً لإيلان بابه؛ ممّا يرد فيها: "ينتمي إلى تيار 'المؤرّخين الجدد' الذين أعادوا النظر بشكل نقدي في تاريخ إسرائيل والصهيونية"، مع ببلوغرافيا لمؤلَّفاته المترجمَة إلى الفرنسية؛ ومن بينها كتابُه "أرضٌ لشعبَين: تاريخ فلسطين الحديثة" الذي أصدرت ترجمته عام 2004. وبالبحث عن العمل، تطالعنا العبارة نفسُها: "هذا الكتاب لم يُعد متوفّراً للبيع".
بطاقة
يشغل إيلان بابه منصب أستاذ في كلّية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بـ"جامعة إكستر" بإنكلترا ومدير "المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية" فيها. من مؤلَّفاته: "الفلسطينيون المنسيون: تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل" (2011)، و"بيروقراطية الشرّ: تاريخ الاحتلال الإسرائيلي" (2012)، و"فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة" (2014)، و"عشر خرافات عن إسرائيل" (2017). وبالاشتراك مع نعوم تشومسكي: "غزّة في أزمة: تأمّلات في الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين" (2012).